عندما جرى الإعلان عن عودة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله - حفظه الله - إلى الوطن بعد رحلة علاجية استمرت ثلاثة أشهر، غمرت مشاعر الفرح نفوس المواطنين مثل فرحة المحب المشتاق بعودة حبيبه الغائب، ولم تكن الأوامر الملكية التي
سبق صدورها موعد وصوله الوطن نوعاً من الهدايا التي يحضرها المسافر معه لكي يفرح بها أهله. فالفرحة حاصلة بدونها إذ يكفي أن عودته تبعث الطمأنينة في النفوس. تلك الأوامر لم تصدر من أجل أن تجلب الفرح، بل إنها جلبت معها الأمل. وما هو الأمل. إنه إحساسك الذي يوحي إليك عندما ترى ظاهرة مشرقة - أن وراء هذه الظاهرة خير مستمر أو خير قادم، فبماذا توحي هذه الأوامر؟ أم أنها ليست إيحاءات بل مقدمات لما سيأتي؟
لن أستعرضها كلها بل بعضاً منها.
أولاً: دعم صندوق التنمية العقارية بأربعين مليار ريال:
من الواضح أن الهدف من ذلك هو اختصار قائمة الانتظار الطويلة وتيسير الحصول على القرض المطلوب لأكبر شريحة ممكنة، إذ لم يتضمن الأمر زيادة مبلغ القرض للأفراد. وفي هذا الدعم دلالة على اهتمام عميق بمشكلة الإسكان باعتباره قضية تقض مضجع المواطنين والمسئولين، وسوف يتمخض عن هذا الاهتمام اهتمام أكبر بمدى استفادة طالبي القروض من هذا الدعم مع صعوبة الحصول على الأرض بسبب غلاء سعرها أو ارتفاع تكلفة البناء وقد تطرح أسئلة مثل:
- هل يمكن إيجاد وسيلة تخفض أسعارالأراضي مثل اشتراط استغلالها وتطويرها بعد زمن محدد من امتلاكها أو فرض غرامة سنوية مؤثرة على صاحبها كعقوبة على إهمالها.
- هل يمكن اللجوء إلى أسلوب استخدام القرض للتمليك أو للتأجير طويل الأجل لشقق عائلية مريحة في عمائر ذات أدوار متعددة، فالمستثمر هو الذي يتحمل قيمة الأرض وليس المستهلك. ولكي تكون جذابة للعائلة السعودية توفر لها الحماية وتزود العمائر بمرافق تستريح فيها العوائل، ويلعب فيها الأطفال.
- هل من المجدي تيسير الحصول على السكن كحافز للعمل والإنتاجية؟
- هل من المجدي وضع هيئة الإسكان وصندوق التنمية العقارية تحت قبة واحدة يتم تحتها التنسيق بينهما في تنفيذ سياسة الإسكان وفي تمويله؟ ولاسيما عندما يصدر نظام للرهن العقاري خال من سوءات التطبيق التي شهدنا آثارها في أمريكا، وتقوم البنوك بدور رئيس في تمويل بناء المساكن.
ثانياً: إعانة الباحثين عن العمل
ليست قضية الإسكان وحدها هي ما يؤرق ولاة الأمر والمواطنين بل توفير مصدر الرزق لمن لا دخل له. ومع أن هناك مؤسسات حكومية مثل بنك التسليف والادخار الذي شملت الأوامر الملكية أيضاً دعمه بثلاثين مليار ريال - إلى جانب برامج ومبادرات أهلية وحكومية لدعم الراغبين في إقامة مشروعات صغيرة - وهم فعلاً الأجدر بالدعم والمساندة - أو توظيف الباحثين (الراغبين) في العمل، إلا أنه توجد نسبة من الشباب - بنين وبنات - لا تجد الوظيفة التي تؤمن لها مصدر الرزق الكريم.
وهذه النسبة هي ما نقول عنها (نسبة البطالة) ولا يهم إن كانت 9% أو 11% أو أقل من ذلك أو أكثر، فهم يظلون عالة على أسرهم تكفل لهم السكن والمعيشة (وربما السيارة إن كانوا ذكوراً!) - وهذا بالطبع يقلل الحافز للبحث عن العمل - وإذا كانت البطالة بين حملة المؤهلات مشكلة، فإنها تهون - بسبب نضج وعيهم - عند مشكلة البطالة بين غير المؤهلين. فهؤلاء لا يصبحون عالة على أسرهم فقط، بل وعلى مجتمعهم - اقتصادياً وسلوكياً. لذلك فإن الأمر الملكي يدفع إعانة مؤقتة بعام واحد للباحثين عن العمل هو خطوة جادة لاحتواء بعض ذيول هذه المشكلة. وكونها مؤقتة يوحي - أو يقوي الأمل - بقرب معالجتها جذرياً - خاصة أن الأمر الملكي وجه وزارة العمل بإجراء دراسة عاجلة حول تفعيل برنامجي التأمين التعاوني للمواطنين العاطلين عن العمل والسعودة. والحلول العلاجية لذلك مطروحة ولا حاجة لاختراعها من جديد، وإنما هي في حاجة إلى إزالة العوائق أمام وضعها في إطار متقن مدروس لا ينتظر إلا الإقدام على تنفيذه، تحقيقاً للمصلحة العامة دون اهتمام مبالغ فيه بالآراء التي تعبر عن مواقف خاصة، ومن تلك الحلول المعروفة:
أ- تطبيق نظام الحد الأدنى للأجور - الذي يراعي الظروف المعيشية، والحجج التي ترفع في وجه هذا النظام معروفة أيضاً، ويستطيع الخبراء دحضها. وليس لكاتب هذا المقال إلا أن يطرح أسئلة قد تكون ساذجة مثل:
- هل يمكن أن يكون الحد الأدنى للأجور متفاوتاً حسب أنواع المهن؟
- هل يمكن أن يكون الحد الأدنى للأجور - للسعوديين - حزمة مركبة من أجزاء تتحمل الدولة بعضها - مثل التأمين الصحي - علاوة الزواج والأطفال - قرض الإسكان، مما يخفف العبء على القطاع الخاص.
- هل يفيد توضيح الالتزام المترتب على كل من العامل وصاحب العمل عن طريق تحديد الأجر بالساعة (أي الحد الأدنى للأجر)؟
إذا كان ما نقل على لسان معالي وزير العمل صحيحاً وهو أنه لا نية لتطبيق حد أدنى للأجور - فنقول لعل الأعمال هذه المرة ليست بالنيات!.
ب- إن بعض الشباب يتلكأ في قبول الوظيفة، ولكن مما يلفت النظر - ويخيب الظن أيضاً - أن شباباً حصلوا على وظائف بشق الأنفس (وأحياناً بالواسطة) ويتلقون فيها أجوراً مجزية، سرعان ما يتركونها، إما لأنها لا تضمن الاستقرار الوظيفي، أو لأن مهامها شاقة (في نظرهم) أو بسبب ساعات الدوام، أو غير ذلك من الأسباب. هل هذه مواقف نفسية؟ أم مفاهيم اجتماعية؟ أم ظروف معيشية؟ أما بعض من الشباب فإنهم أقل التزاماً وانضباطاً وإنتاجية في أداء عملهم، ربما لضعف إدراكهم للقيمة الأخلاقية لمسئولية العمل. فهم يلتزمون بطاعة الله، طاعة ولي الأمر، طاعة الوالدين، طاعة عميد الأسرة أو العشيرة، أما طاعة العمل فهي آخر ما يفكرون فيه لأنه لم يكن ضمن مسار تربيتهم وأولويات انتمائهم. أليس هذا مما يجب أن يكون موضوع بحث ودراسة؟ أليس هناك آليات وحوافز ترفع من قيمة العمل وتجعله جذاباً لأولئك الشباب، وتجعل الشاب أكثر تحملاً وجدية؟ هل نبدأ بذلك في المدرسة؟
ج- إتاحة الفرص أمام المرأة للعمل في مجالات لا يزال سوء الفهم - أو سوء الظن أو كلاهما - يضيقها في وجه المرأة المضطرة للعمل والكسب الشريف، وموضوع عمل المحاسبات ليس عنا ببعيد. المرأة بحاجة إلى سند الدولة القوي لمغالبة قهر الرجال. فالخالق عز وجل تجاوز عن إثم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير لمن اضطر غير باغ ولا عاد. فما بال بعض المخلوقين لا يريدون الاعتبار!
د- تكثيف الجهود المبذولة لإعادة تأهيل وتدريب الشباب من أجل تهيئتهم لاقتحام سوق العمل بالمهارات والقدرات التي تفي بمتطلبات هذا السوق. هنالك الكثير من المبادرات والاجتهادات الجيدة - حكومية وغير حكومية - ولكنها ليست كافية لبلوغ المرام. فلا بد من رصد ميزانية سخية لتنفيذ خطط وبرامج إعادة التأهيل والتدريب التحويلي تحت إشراف هيئة أو مؤسسة حكومية مستقلة. هذه الخطط والبرامج لا تقل استحقاقاً للإنفاق السخي عن التعليم نفسه الذي تنفق عليه الدولة بسخاء لا نظير له. ولا تكفي لذلك المساهمات الأهلية أو الموارد المالية لصندوق تنمية الموارد البشرية.
ثالثاً: إحداث ألف ومائتي وظيفة لدعم الأجهزة الرقابية
وفي هذا الأمر مغزى استراتيجي بالغ الأهمية، فإن كثيراً من الخلل والفساد ينشأ من ضعف الرقابة واستصغار شأنها. لقد تعودنا على أن تنتهي الأنشطة الرقابية بالتقارير ثم الرد عليها أو تنفيذ توصياتها الإجرائية لاحقاً.
هذا النوع من الرقابة لا يكفي ولا يغيركثيراً، ولذلك فإن زيادة عدد الموظفين لا تغني شيئاً إذا لم تكن الجهة الرقابية - مثل ديوان المراقبة - مدعمة بأجهزة فنية ومتخصصين على مستوى جيد من التأهيل، وقادرة على المتابعة الميدانية المتواصلة واتخاذ إجراءات تصحيحية فورية مبنية على إدراك الخلل في أي مرحلة من مراحل العملية المراد مراقبتها من أجل ذلك يتعذر على الديوان - على سبيل المثال - أن يراقب ويقيّم المشاريع الإنشائية التي يصرف عليها مئات الملايين أو عشرات البلايين من الريالات، بدون أجهزة هندسية فعالة ومستقلة وتخول صلاحيات كافية، ويبدأ عملها من حين إعداد المواصفات إلى حين تأهيل المقاولين والطرح والترسية ثم مراقبة التنفيذ. لووجدت مثل هذه الأجهزة التي تقوم بالمهام الرقابية المتخصصة لتحسن أداء المقاولين وخاف الذين لا يخافون الله من رقابة خلقه. وعندئذ نكون انتقلنا من الرقابة المنتهية بالتدوين إلى الرقابة المنتهية بالتحسين، وحققنا الهدف الذي من أجله صدر الأمر الملكي.
رابعاً: صرف عشرة ملايين ريال لكل ناد أدبي وجمعية مهنية متخصصة.
هذا إلى جانب الدعم المخصص للنوادي الرياضية والجمعيات الخيرية. إن هذا الدعم يعني تقديراً سامياً لأهمية المجتمع المدني وقيمته. وهذا المجتمع إنما يتكون من مشاركات أفراد المجتمع في أنشطة مهنية أو اجتماعية ترفد وتعضد أنشطة الدولة. فالحكومة والمجتمع المدني رفيقا درب يسعيان لخير المواطنين ورفاهيتهم ورفعتهم.
ومنذ وقت ليس ببعيد أقر مجلس الشورى مشروع نظام للهيئات والجمعيات الأهلية - أي لمكونات المجتمع المدني، ولم يصدر هذا النظام بعد. فلعل هذا الدعم السخي إيذان بصدور هذا النظام بما فيه من إنشاء هيئة تشرف على تنفيذه ويرأسها وزير. وكما أن وزير الدولة لشئون مجلس الشورى يمثل حلقة الوصل بين مجلس الشورى ومجلس الوزراء، فلعل رئيس تلك الهيئة يكون أيضاً حلقة الوصل بين المجتمع المدني والحكومة.
إن ما سبق ذكره غيض من فيض آمال بعثتها تلك الأوامر الملكية.