وتعرّض كثير من المفسرين للنوم قديماً وحديثاً، وكلٌّ قدم في هذا الموضوع ما يلائمه، وما هو من منظوره واختصاصه، كما تحدث الأطباء وعلماء النفس والفلاسفة، إذْ كلٌّ يدلي بدلوه، ويبرز ما ظهر له. وهذا صاحب الظلال سيد قطب يقول في سورة النبأ، عند مروره بقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} (سورة النبأ آية 9): «وكان من تدبير الله
القادر على كل شيء، أنْ جعل النوم سباتاً، يدركم فيقطعهم عن الإدراك والنشاط، ويجعلهم في حالة، لا هي موت، ولا هي حياة، تتكفل براحة أجسادهم وأعصابهم، وتعويضها عن الجهد الذي بذلته في حالة الصّحو، والإجهاد والانشغال بأمور الحياة الدنيا.
وهذا يتم بطريقة عجيبة، لا يدرك الإنسان كُنْهها، ولا نصيب لإرادته فيها، ولا يمكن أنْ يعرف كيف تتم في كيانه.
فهو في حالة الصّحو لا يعرف كيف يكون، وهو في حالة النوم، لا يدرك هذه الحالة، ولا يَقْدِرُ على المعرفة ولا ملاحظتها، وهي سرّ من أسرار تكوين الحي القيوم لايعلمه إلا من خلق هذا الحي، وأودعه ذلك السرّ، وجعل حياته متوقفة عليه، فما من حيٍّ يطيق أن يظلّ من غير نوم، إلا فترة محدودة فإذا أجبر إجباراً بوسائل خارجة عن ذاته كي يظلّ مستيقظاً فإنه يهلك قطعاً.
وفي النوم أسرار غير تلبية الجسد والأعصاب، إنه هدْنة الروح من صراع الحياة العنيف، هدنة تلمُّ بالفرد، فيلقي سلاحه وجُنّتهُ -وهو في المعركة القتالية - طائعاً أو غير طائع - ويستسلم لفترة وجيزة من السلام الآمن، السلام الذي يحتاجه الفرد حاجته إلى الطعام والشراب.
ويقع ما يشبه المعجزات في بعض الحالات، حيث يلمّ الناس بالأجفان، والروح مثقلة، والأعصاب مكدودة والنفس منزعجة، والقلب مروّع، وكأنما هذا النعاس، وأحياناً لا يزيد عن لحظات انقلاب تام، في كيان هذا الفرد، وتجديد كامل لقواه، بل له هو في ذاته، وكأنما هو حين يصحو من نومه، كائن جديد، بنشاط جديد، وقوة جسدية جديدة.
ولقد وقعت هذه المعجزة بشكل واضح للمسلمين المجهودين، في غزوة بدر، وفي غزوة الأحزاب، و(أحد) وأمن الله على المسلمين بها، وهو يقول جل وعلا: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} (سورة الأنفال آية 11)، ثم زاد الله سبحانه ببشارة النصر ومدد الملائكة، حيث استرسل في ذلك للفائدة وبيان ما وراء هذه البشارة، من مصلحة وقوة للرسول صلى الله عليه وسلم ومنْ معه من المسلمين، لأن النصر من الله سبحانه. (يراجع تفسير الظلال، لسيد قطب: سورة النبأ).
فمثل هذا السبات - الذي ذكره الله سبحانه، في أكثر من موضع، يعني الانقطاع عن الإدراك والنشاط بالنوم، الذي جعله الله سبحانه، ضرورة من ضرورات الكائن الحين وسرّ من أسرار القدرة الإلهية الخالقة، ونعمة من النعم، لا يملك إعطاءها البشر إلا هو سبحانه، ويقول سبحانه في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (الآية 23) وآية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله سبحانه، أولها قوله سبحانه: {اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} نفَتْ عن الله سبحانه النوم والسِنة، لأن السِنة الذي يطلق عليها في اللغة، الوسْنانْ: الذي هو نائم وليس بنائم، وتعالى الله سبحانه عن ذلك وهذه كما قال السيوطي، أعطيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال أعطيت آية الكرسي من تحت العرش، ولم يعطها نبي قبلي وهي آية الكرسي.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، الذي وكل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حراسة أموال الصدقة، فجاء شيطان يحنو منها، ويتحايل عليه حتى أمسكه أبو هريرة، وقال في الثالثة، ما أنت بمفارقي حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتضرع إليه بأن يطلقه، ويعلمه بشيء ينفعه، فعلمه آية الكرسي، وقال: إذا قرأتها إذا أويت إلى فراشك فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، قال صلى الله عليه وسلم: صدقك وهو كذوب، وهو حديث طويل رواه البخاري، وقد جاء عن أبي نعيم في الحلية وغيره، وهي أية سَهْلٌ حفظها، يقرأها الإنسان، وهو قاعد أو قائم وعند النوم لعظمها.
يَحْسُن بكل مسلم أن يحرص عليها، ويقرأها بعد كل صلاة، وعند النوم، لما فيها من حفظ الله للإنسان من الشرور والآفات.
وقد أورد السيوطي في تفسيره: الدر المنثور في التفسير المأثور، عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنّ بني إسرائيل سألوا موسى عليه الصلاة والسلام قالوا: يا موسى هل ينام ربك؟ قال: اتقوا الله، فناداه ربه: يا موسى سألوك هل ينام ربك، فخذ زجاجتين في يديك فقم الليل.
ففعل موسى، فلما ذهب من الليل ثلثه، نَفَس فوقع لركبتيه، ثم انتعش فضبطهما، حتى إذا كان آخر الليل، نعس موسى، فسقطتْ الزجاجتان فانكسرتا، فقال: يا موسى لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض، فهكن كما هلكت الزجاجتان في يديك، وأنزل الله على نبيه آية الكرسي. (الدر المنثور ج 2ص14 طباعة دار الفكر بيروت 1993م - 1414هـ).
فالجسم عندما يحس بتعب، أو يطرأ عليه مرض فإنّ النذائر لصاحبه من أعراض يدرك منها الطبيب موطن الألم، وسبب العلة، لأن الله سبحانه جعل في أجسام البشر موازين دقيقة ومحكمة، تقيس ما يطرأ عليها، وما يوجه إليها: من غذاء وجوّ، وتحمّل وقدرات، وتعطى هذه الموازين، مؤشرات تنبئ عن الخطر الناجم، للجسم والضرر الذي داهمه، حتى يتمكن من الوقاية، ومعرفة مداخل ذلك الخطر.. وبعض الدول عند التحقيق، فحتى يقر المطلوب بما يريدون، يمنعونه من النوم، فإذا ثقل استجوبوه، وحالة الجسم إذا أرهق صاحبه، مثل العوارض الأخرى، إلا أن الله سبحانه، جعل النوم سُباتاً: أيْ راحة للأجسام، كما أثبته المفسرون، ولا يحتاج الإنسان، مع هذا لاتعب والإرهاق المظني، من العمل أو السهر الطويل أو في حالة الأسفار، أو بالنسبة للطالبات والطلبة، عند الامتحانات.
لأن كلا منهما عند الامتحانات أو في الأسفار على الطرقات الطويلة، إذا شعر الإنسان بأطراف النعاس، يداعب أجفانه فإنه مأمور بالاستسلام، درءًا للمخاطر التي تنجم عن عدم الاستجابة، فالمسافر على الطرقات، قد يخسر نفسه وولده وأهله وماله والطالب يخسر دراساته وتعبه سنة أو سنوات وكذا غيرهم من أصحاب الأعمال.
ولما كانت الوقاية مقدمة على العلاج حتى لا تحصل الكوارث بالإهمال.
والوقاية في هذا السيطرة على موطن الإحساس في الإنسان، والاستعداد بما يريح هذا الجسم، وذلك بإعطائه طلبه اليومي، بالنوم الذي به راحة الجسم، وسلامة الإنسان من المخاطر.
إذ ما أكثر الخسائر في الأموال والأنفس، عند الذين يطردون النوم بالمنبهات والمخدرات، وما يخامر العقل، بغير روّية ولا تعقل.. وقد فرضتْ كثير من أمم الأرض، عقوبات شديدة وهم غير مسلمين على ذلك والمسلمون أولى. ولذا جاء في الحديث: (لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يقتل النفس وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) قال العلماء: إنه يرتفع عنه الإيمان، مع هذه الأعمال، والإيمان مرتبط بالعقل والإحساس.. فليت كل مسلم، يتأدب بآداب الإسلام، التي فيها: حفظ للنفس، ورعاية للمجتمع ومحافظة على الآخرين في أنفسهم وأموالهم.
ولو ذهب أي فرد منا، للجهات الأمنية، ليستوضح عن الحوادث في فترة من الزمن: نصف سنة، أو ربع سنة، وكثرة ما نجم عن هذه الحوادث، من أنفس بالوفاة، أو بالعجز والعاهات، وما وراء ذلك من خسائر مالية، لوجد النتيجة الغالبة، أن الأسباب من قلة النوم، أوتعاطي المنبهات التي تمنع النوم، وتكون بها الكوارث. وإن التهاون في عدم الوقاية والحيطة، والأخذ بالأسباب التي أبسطها إعطاء الجسم من النوم حتى ينشط ويزاول مهماته، حتى لا يجني على نفسه ولا على الآخرين، نسأل الله السلامة.
كل ذلك وغيره، مما يجب معه التوعية أولا، ثم العقاب ثانيا بما يردع حماية للنفس البشرية، التي حرم الله الاعتداء عليها، إذْ في بلاد الغرب: رقابة في الطرق - الخاصة والعامة- لتصيّد من يتجاوز الحدّ، وما حُدد من التزامات، ويدخل في هذا من يبين عليه النعاس، أو ما يجلب النعاس والغفلة، بروادع معينة، حماية لنفسه ولأرواح وممتلكات الآخرين.
وعندما معاشر المسلمين ما هو أشد، في حماية النفس والمجتمع لو طُبقت بحزم حيث يقول عثمان بن عفان رضي الله عنه: (ينزع الله بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن).