بعد الرد المهين والاستنكاري، الذي تلقاه السيد علي خامنئي من شباب ميدان التحرير في مصر، عقب محاولته إلحاق ما جرى هناك «بالثورة الإسلامية «في إيران، بدأ جماعة إيران يراجعون حساباتهم، بعد أن ظهر خطأ اعتقادهم بأن الحدث التونسي أو المصري هو بقيادة حزب الإخوان المسلمين، وتبين لهم أن الرياح لا تهب في الاتجاه الذي يمكن أن يملأ أشرعة سفنهم، وأن حقبة صعودهم وهيمنتهم ربما تكون قد اقتربت من نهايتها، بسبب التغير الذي شهده الحقل
السياسي العربي العام، والطابع الذي يحمله ويناقض بكل وضوح ما كانوا يؤمنون به: وهو أن التطورات ذاهبة في الاتجاه الذي يمثلونه، وأن معارضي نهجهم محكومون بالفشل والخسران، حتى أننا سمعنا بعض ممثلي التيار الإيراني في العالم العربي يطالبون زوارا أوروبيين بتغيير مواقفهم المهزومة والخاطئة في أقرب وقت، أولا: لأنه لم يعد هناك فسحة زمنية كافية للتغيير، وثانيا : لأن التغيير الذي سيجرونه بعد فوات الوقت لن يكون مقبولا.
هبت الريح في وجه خطط إيران ضد العالم العربي وفيه، وبدأ الشك يراود أنصارها في استمرار سياستها المبنية على استغلال الفراغ من أجل اختراق البلدان العربية المختلفة، والمزايدة على العرب وانتزاع بعض أكثر قضاياهم أهمية، كقضية فلسطين، من أيديهم والمتاجرة بها وتوجيهها ضدهم، لذلك وجدنا بعض مشايعيهم يسرعون إلى تغيير مواقفهم، وفي مقدمهم السيد خالد مشعل، زعيم حماس، الذي لم يترك في الماضي حجة أو ذريعة إلا واستخدمها لتبرير معارضته لوحدة الصف الفلسطيني، ولإحباط جهود كثير من الدول العربية، التي أرادت رأب صدع فلسطيني خطير سببه انشقاق تنظيماتها لم يخدم أحدا غير العدو الإسرائيلي، وتمسك مشعل ببقائه تحت شعار «المقاومة»، رغم أنه لم يعد يقاوم أحدا غير منظمة التحرير، بعد عملية «الرصاص المصبوب» الصهيونية، التي نفذها العدو ضد شعب غزة عام 2008، وجعل تنظيمه حارسا بكل معنى الكلمة للكيان الغاصب، حين أرسل دوريات مسلحة من حماس إلى الحدود مع فلسطين المحتلة لحماية المستوطنين من الصواريخ وقنابل الهاون، أو العمليات البرية لمقاومي الفصائل الأخرى، ووصل الأمر بتنظيمه أن قام بقصف وتدمير مساجد في غزة، وقتل وجرح نيفا ومائة شخص، ومليون فلسطيني نزلوا إلى الشارع لإحياء الذكرى الثالثة لغياب الرئيس الشهيد ياسر عرفات.
قال «الرئيس» - كما يلقبه أنصاره - مشعل ما معناه: إن حماس ستفعل كل ما يلزم من أجل استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، ولن تقبل باستمرار الخلافات الراهنة، وستضع تصورا شاملا لمصالحة ترضي جميع الأطراف.
هذا كلام من الضروري لقائله أن ينفذ مضمونه، ليس فقط لأنه سبق لمشعل وغيره أن قالوه ووعدوا بتنفيذه، بل كذلك لأنه يجب أن يصير برنامج عمل وطني لحماس ولغيرها، على أن لا يبدأ المصالحة من فوق، من سطح الخلافات، بل يرسيها على أرضية تفاهم استراتيجي عميق بين الفصائل المختلفة يوجه جهودها ضد العدو، وتتوقف عن التحالف بعضها ضد بعض، فتكون «إسرائيل» الجهة الوحيدة المستفيدة منها، مثلما حدث إلى الآن بفضل تعنت حماس ونظرتها إلى المصالحة الوطنية، القائمة على التوفيق بينها وبين الفصائل الأخرى، باعتباره تراجعا عن المبدئية أو هزيمة لخط «المقاومة» المزعوم.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو التالي: هل «الرئيس» مشعل على استعداد لتبني إستراتيجية تخرج عن نظرة إيران إلى المسائل والمشكلات القائمة في عالم العرب، وبينهم وبينها ومع العدو الصهيوني، أم هو يناور ويتراجع في سياق خطة إيرانية عامة تريد احتواء الآثار المأساوية للسياسات المذهبية والطائفية، التي سادت المنطقة بعد انتصار الثورة في إيران، التي استولى عليها بعض الملالي، ويرجح أن تطوي التغيرات العربية الراهنة صفحتها السوداء في تاريخنا الحديث، وتأخذنا إلى زمن ما بعد طائفي / مذهبي، يملأ العرب فيه وطنهم الكبير بحضورهم القومي والإنساني، ويخرجون منه الذين لا ينتمون إليه ولا يريدون به خيرا، ويعيدون إيران إلى حجمها ومكانها الحقيقي، كدولة شقيقة يجب أن تنصرف إلى حل مشاكلها الخاصة بدل التسبب بمشاكل لهم، مع أنهم لم يكونوا يوما إلا متضامنين ومتعاطفين معها؟.
إذا كان «الرئيس» مشعل قد قرر التراجع عن سياسته السابقة، فخيرا وبركة.
أما إذا كان يعتقد كبعض قادة حزب الله أن ما يجري يخدمه، ويريد بالتالي خوض صراع جديد مع المنظمة يجبرها على تبني مقاومته واستكمال تحويل القضية الفلسطينية إلى أداة تتربح منها إيران وتساوم عليها الأميركيين والأوروبيين، فهذا سيكون أفظع جوانب الطامة الكبرى الجديدة، التي ستفوت على فلسطين فرص الإفادة من التطورات العربية، وستعمق انقسامات تنظيماتها وسياساتها، مع ما سيسببه لها ذلك من أذى قاتل بمعنى الكلمة!.
وقعت التطورات العربية الحالية خلال لحظة بلغت القضية الفلسطينية فيها القاع، وبدا وكأنها تتخبط يائسة من تحقيق أي شيء إيجابي،فلا أقل من أن تؤقلم نفسها مع الظرف الجديد وتفيد منه، وتستمد بعض القوة من التبدل الذي سيحدثه في علاقات العرب مع الغرب عامة والعدو الإسرائيلي خاصة، فإن وجد من يدخلها في متاهات إضافية خلال هذه اللحظة المفصلية، ضيع فرصتها الذهبية، إلا إذا كانت رغبته في المصالحة جدية ونزيهة، وكان القصد منها الإفادة من السانحة الفريدة.
في هذه الحالة، لا بد أن يلتزم بتقديم خطة توافقية تتخطى الأقوال والوعود، التي برعت حماس في قطعها على نفسها، لكسب الوقت وليس لإخراج فلسطين وقضيتها من الهاوية، التي أسهمت كثيرا في دفعها إليها، بفضل سياسة الانقسام وما أدخلته من يأس إلى قلوب أبناء الشعب المناضل، و»المقاومة» التي لا تقاوم غير أبناء جلدتها.
بانتظار تحرك تفصيلي إيجابي حقا تقوم به حماس، من الضروري أن تأخذ المنظمة زمام المبادرة وتتحرك فلسطينيا وعربيا ودوليا بروحية الأجواء العربية الجديدة، ما دام الوقت مناسبا والعالم العربي يتقدم نحو نقطة سيكون لفلسطين فيها كل الخير، بنضال شعبها وأمتها العربية!.