إن الاعتزاز بالقومية العربية كثقافة لا عرق، فخر لا فجور فيه، ففي هذه الأمة نزلت الرسالة الختام ومنها انطلقت جحافل الخير والسلام، وإذا كانت الأحداث التي تكالبت على هذه الأمة قد أخرجت من بينها من يتنكر لعروبته
ويصفها ب(القومجية) والعرب ب(الأعراب) للتقليل من شأنهم وشأنها، فإن هذا ليس إلا زبداً وغثاء كغثاء السيل.
وكما جاء في مقدمة بن خلدون يرحمه الله، فإن الناس متى انتصرت وسادت، انتشت وافتخرت، ومتى هُزمت وذلّت تبرأت من تاريخها وقلدت المنتصر حتى في احتقاره لها، ولا جديد إذن في خروج من يتطاول على أمته ويستصغرها أمام منتصر ومتسيد الواقع، وإن كانت الروح المنهزمة أشد ما يكسر الهمم ويوهن الأمم، فإن للمراقب والمتابع أن يرى ويلمح اليوم أنوار الأمل في مواقع عدة ومتنوعة في عالمنا العربي، لا زالت حريصة ومتيقظة وتمارس التنوير الحقيقي داخل الوجدان العربي الممتلئ بالانكسار والإحباط، وبالتأكيد الأمم لا تموت وإنما هي أجيال تتعاقب، تمرض وتضعف ولكن أبدا لا تموت بل تعود وتنهض خاصة متى كانت تحمل تميّزا وأصالة.
لا أعرف بالضبط متى صاغ الشاعر فخري البارودي (1889- 1966م) أنشودة بلاد العرب أوطاني، ولكني أعرف أن فرقة (فليفل إخوان) الشامية قد صاغت لها لحنا في خمسينيات القرن الماضي ضمن أناشيد قومية انتشرت بعد نهايات الحرب العالمية الثانية، وهي فترة التحرر من الاستعمار الأجنبي لبعض الأقطار العربية، ثم ساد الوطن العربي تيارا القومية العربية والتضامن الإسلامي بقيادة كل من الملك فيصل والرئيس جمال عبدالناصر رحمهما الله، وفي عام 1974م كان اجتماع (الكيلو 101) على أرض سينا بين مصر العربية والكيان الصهيوني، ليكون نقطة التحول في المناخ العربي بفعل رياح التبشير بالصلح والسلام مع عدو الأمس، ثم جاءت وفاة الملك فيصل عام 1975م لتصبح بغداد العاصمة العربية بعد دخول القاهرة في (كامب ديفيد) وتعود الأنشودة العربية إلى الانتعاش بغية التحفيز ولكن لفترة وجيزة خلال الحرب العراقية الإيرانية التي قسمت العالم الإسلامي، لتبدأ دول عدم الانحياز ودول إفريقيا بالابتعاد شيئا فشيئا عن القضية العربية بعد ترهل التضامن الإسلامي وانحسار المد القومي، وما هي إلا سنوات قليلة حتى باغتت بغداد العرب باحتلال الكويت ليتمزق الصف العربي ذاته ويدخل في مرحلة «التوجس» التي انتهت باحتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق، لنصل إلى مرحلة الاستخفاف والاستهزاء بهذا النشيد:
بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان
ومن نجدٍ إلى يمنٍ إلى مصر فتطوان
فلا حدٌ يباعدنا ولا دينٌ يفرقنا
لسان الضاد يجمعنا بقحطان وعدنان
لنا مدنية سلفت سنحييها وإن دثرت
ولو في وجهها وقفت دهاة الإنس والجان
فهبوا يا بني قومي إلى العلياء بالعلم
وغنوا يا بني أمي بلاد العرب أوطاني
كانت السطور السابقة من مقال كتبته في العام الماضي وترددت في نشره، أما اليوم فاني أجدها مناسبة رائعة لأعيد هذا النشيد الرائع في هذا العام الرائع على أمتنا العربية، فقادم الأيام يبدو مشرقا ومبشرا بيقظة عربية في بعض الدول التي ظلمها حكامها كمعمر القذافي لتكون ركيزتها العلم والتقنية والمعرفة، تستطيع بإذن الله أن تنقل الوطن العربي من حال ردّات الفعل وتلقي المستجدات من الأحداث بحيرة وهلع إلى مواقف فاعلة ومؤثرة على أرضية متينة وصلبة من الوعي بقيمها الأصيلة وإيمان ويقين بعظمتها وكفاءتها وجدارتها بأن تكون بين الأمم الفاعلة والمؤثرة، بما تملكه من تاريخ وثقافة أثبتت الأشهر الثلاثة الماضية حياتها وحيويتها في إعادة انبعاثها بعد ما ظن الآثمون أنها صارت عبء على المجتمع الأممي وعالة عليه.