تبتهج الذاكرة وأنسجة الوجدان بتجدد اللّفتات الإنسانية الرائعة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وقد أشرقت علينا مبادراته الرائعة ولفتاته الكريمة منذ بدأ عمله في رئاسة الحرس الوطني في عهد الملك سعود - رحمه الله - فحوّله إلى مدارس تعليمية، وثقافية، وتأهيلية لخدمة الدين والوطن، وحوّل عناصره من بادية وحاضرة إلى سواعد مؤهلة، وعقول مثقفة، ونماذج جديرة بالاشتراك الفعّال في التنمية والبناء والتأهيل، وتحوّل مبنى الحرس الوطني الأوّل بحي المربع بالرياض إلى مدن متكاملة شاملة يجتمع فيها التعليم والتدريب والإسكان والتأهيل والرعاية الصحية والاجتماعية والتنموية في نماذج حديثة رائعة في مناطق ومدن المملكة المختلفة.
وتجاوزت اهتماماته إلى إنشاء ميادين للفروسية والتنافسات الحيويّة، والثقافية عبر (مهرجان التراث والثقافة) لخدمة نشاطات التراث والسياحة والثقافة، وتحت رعايته - رعاه الله - أُقيمت مؤتمرات للحوار والاتفاق والمصالحة وانطلقت مبادراته الرائدة مما يؤيد حضوره المتألق محلياً ودولياً.
وللحديث عن إنجازات خادم الحرمين وحضوره الأثير محلياً وعالمياً لا بدّ من وقفة أمام أحد منجزاته الرائعة المنبثقة من هواجسه الرائدة.
- تلك الهواجسُ - كانت - قصَّةَ حلْم قبل ما يزيد عن ربع قرن، ثم تحوّلت - مع المصداقيّة - إلى حقيقة.
- تحويلُ القرى إلى مدن، واتصال المدن بالمدن الأخرى عبر الصّحراء في المملكة كانت من الأحلام التي تحوّلت إلى حقائق واقعية، لكن الأهم هو تحوُّل القرى والصحارى إلى مدنٍ حضارية منتجة كما شهدنا ذلك منذ تدفّق النفط قبل ما يقارب ثمانين سنة في عهد الملك المؤسّس عبد العزيز - رحمه الله - وانطلاق سكة الخطوط الحديدية في عهده من المنطقة الشرقية إلى منطقة الرياض التي نأمل أن تشمل جميع مدن المملكة.
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبتْ في مُرادها الأجسامُ
- هواجس الوفاءِ والانتماء والخلود تمتزجُ برغبة الخير والارتقاء لتنسجَ حلْماً كبيراً يتشكّلُ مع قفزات التطوّر والحداثة المعاصرة ليصبح حقيقة. تلك هي قصّةُ الحلم الذي راودَ هذا الإنسانَ المتدثِّرَ بالوفاء والتقدير لوطَنه وأبنائه، قصّةُ الهاجسِ - الحلْم الذي راود الملك عبد الله بن عبد العزيز منذ ربْع قرن، ثم تحقّق بالعزيمة الرائدة ورغبةِ الحضور الأمثل في إنشاء (جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية).
- هذا الحلْمُ الأثيرُ الذي حوّل قريةَ ثُوْل التابعة لمحافظة جدّة إلى مدينة باذخة بالإشراق والحضور الرائعين.
كان لمركز ثوْل موعدٌ مع الحضارة والدهشة والوفاء في التاسع من شهر شوّال عام 1428هـ حين وضعَ خادمُ الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز حجر الأساس لهذه الجامعة العلمية العالمية التي تضمُّ (دار الحكمة) لتدير ذاكرة التراث الإسلامي، وتسخّر طاقاتها لخدمة الإنسان في توفير بيئة البحث والعلوم التي تستهدفُ خدمة صناعة البترول وتقنية المعلومات، والإفادة من استثمار تقنية (النّانو) التي تعدُّ فتحاً علمياً جديداً له انعكاساته الإيجابية على الوطن والمواطن في بناء الاقتصاد المبني على المعرفة والمجالات البحثية والتطويرية والتطبيقية في مجالات الطاقة، ومعالجة المياه، والاتصالات، والطبّ، والصيدلة، والغذاء والبيئة، وتصنيع ودراسة خصائص موادّ تقنية النّانو المتناهية الصغر بالإضافة إلى المجالات التعليمية والتدريبية والاجتماعية، لا بُدّ من الإفادة من الخبرات العالمية في هذا المجال.
- تستفيدُ من هذه التقنية مشروعاتٌ ضخمةٌ مثل تحويل حرارة صحارى المملكة إلى طاقة إيجابيّة، وصناعة تقنية حديثة، والمشروع الوطني لتحلية المياه المالحة بالطاقة الشمسية وهو مشروع اقتصادي رائع تنعكس ثماره على المواطن والوطن.
وقد سبق إنشاء هذه الجامعة العالمية (الحلُم) إرهاصاتٌ علميةٌ تقنية حديثة من أهمّها: إنشاء (معهد الملك عبد الله لتقنية النّانو بجامعة الملك سعود بالرياض) الذي قام بتنظيم (المؤتمر الدولي لصناعات تقنية النانو) اشترك فيه نخبة من العلماء البارزين من المملكة والدول العربية وعدد من دول العالم، كما سبق إنشاء (جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية) وزامنها: ابتعاثُ أعداد كبيرة من الدارسين لاستكمال الدراسات العليا في الولايات المتحدة وأوربّا وغيرها لتأهيلهم في اختصاصاتٍ علمية شتّى لخدمة بلادهم بنماذج راقيةٍ متقدمة.
- الحديث عن هواجس الوطن، ومنجزاته الحضاريّة الرائعة يتّصلُ كلَّ يوم، ويُعدُّ فاصلةً في مهرجان أفراحه، وتجلّياته المشرقة بالأمل والحضور والفعاليات المنعكسة على مشاعر المواطنين وحياتهم، وتغيير أحوالهم نحو الأفضل.
- وقد استبشر المواطنون هذه الأيام بعودة خادم الحرمين الشريفين سليماً معافى - بعد رحلته العلاجيّة - متّعه الله أبداً بالصّحة والسعادة - وفرحت لاستقباله أعدادٌ كثيفة من مدن المملكة ومحافظاتها وقراها معبّرةً عن ابتهاجها وفرحها وحبِّها لمليكها الرّائد عبد الله بن عبد العزيز الذي مازجهم الوفاء، وبادلهم الحبّ بحبٍّ بمقولته البليغة التي اختصر فيها مشاعر الحبِّ والاحترام والتقدير والوفاء (ما دام أنّكم بخير فأنا بخير) ورَدّدت نبضات قلوبهم ومشاعرهم (كلُّنا بخير ما دمْتَ يا خادم الحرمين بخير) وكان حضورُ خادم الحرمين الشريفين غيثاً هاطلاً، وإشراقةَ عيدٍ أثير لكلِّ محبّيه.
العيدُ: أنتَ حضورُهُ - والدّارُ
قلقٌ تملّكني - فديتُك - عندما
خبرٌ يسابقُ في رحابكَ هاطلاً
ما نافستْكَ على الوفاءِ شمائلٌ
نهرٌ تدفّق بالحنان، وهاجسٌ
**
ضاءَ الوجودُ، وشعّت الأقمارُ
خفتتْ، وحارتْ نحوَكَ الأخبارُ
وبشائرٌ تهفو لها الأعمارُ
إلاّ تألّق نبضُك - الإيثارُ
يسمو به من خافقيكَ فنارُ
**
- وتتحدّث المشاعرُ بانعكاسات الفعاليات الحضاريّة الحديثة التي تهزُّ الوجدان وتؤثّر في حركة الحياة الواقعية:
من راحتْيكَ تبلْورتْ آمالُنا
وروائعُ الفُرَص التي حوَّلتَها
ومناهجٌ، تجديدُها متدثّرٌ
وتخصُّصٌ، أنّى توجَّه يرتدي
وريادةٌ أنتَ الخبيرُ بشأنها
**
صرحٌ، وجامعةٌ تضوعُ، ودارُ
لغةً، وبعثةَ طامحٍ يختارُ
برؤى الحكيم، ومَن إليه يُشارُ
حُللَ الفضيلة، والعلومُ دثارُ
فاسلمْ، فكلُّ المنتدين حوارُ
**
- الوطن هاجسٌ يسكننا، ونسكنُ في أحضانه، إذ يحتضنُ الخيرَ والوفاءَ والإيلافَ والأمنَ والاستقرار، وعندما نتحدّثُ عن هذه المنجزات الحضاريّة الأثيرة فإنّما نحن نمازجُ نسيجَ الحضور والارتقاء والتطوُّر والتحديث المتزامنةِ مع تجلّيات العصر وقفزاته المتسارعة المتناغمةِ مع تواشج الخبْراتِ والمصالح والطّموحات التي ينبغي أن نستثمرها لمصلحة الإنسانية.
- في آفاقِ التنافس الحضاريِّ النبيل يهتفُ إنسانُ الوطن الأثير نشيدَ الوفاء وهو ينتظمُ في موكبِ الانتماءِ والارتقاء ممتزجاً بالتّعامل الأخلاقي النبيل، والقيم الفضلى.
**
لكَ في الحياةِ تلفُّتٌ وحضورُ
من زمزمٍ أفياؤها وضّاءةٌ
وبطيبةَ العمرانُ ينطقُ شامخاً
ويعانقُ التّاريخَ من أصدائهِ
**
هتفتْ لها الأرجاءُ وهْي تمورُ
يروي شذاها الشاهدُ المعمورُ
أحُدٌ يردُّ هتافَها، والطُّورُ
عهدٌ تنوءُ براصديهِ عصورُ
**
اهتمامات المليك، وقراراته الحكيمة
استمراراً لاهتمامات خادم الحرمين الشريفين بأبنائه المواطنين، وإعلانه الحرب على الفقر، وتوجيهاته الرائدة بتوفير حياة سعيدة لكل المواطنين، ورفع مستوى أحوالهم وأوضاعهم إلى الأفضل التي من أهمّها:
تأمين السكن المناسب لكل مستحق منذ توجيهه - رعاه الله - بإنشاء (مؤسسة خادم الحرمين الشريفين - لوالديه - للإسكان) إلى إنشاء (هيئة الإسكان) لتغطي ما تركه غياب (وزارة الإسكان) من فراغ، والإسهام في تأمين السكن لمن لم يتمكن من الإفادة من منح الأراضي الحكومية ثم من الصندوق العقاري، ومنهم من لم يستفد من الخدمات المحدودة للضمان الاجتماعي، وبنك التسليف، فجاءت هذه القرارات الكريمة لتلبّي كثيراً من مطالب ذوي الحاجات الأولى برعاية الدولة لرفع مستوى حياتهم، وتحسين أوضاعهم ومعالجتها ليعيشوا رغداً أثيراً يتناسب مع المستوى الأمثل والمكانة اللائقة بالمملكة العربية السعودية في الحضور الإقليمي والدولي والإنساني اجتماعياً واقتصادياً.
وقد ابتهجت كل فئات المواطنين بصدور هذه القرارات الكريمة لأنّها تلامس حاجات شرائح متفاوتة من المجتمع وتلبّي كثيراً من مطالبها، وليس كلّ المطالب - لكن نهر الخير المتدفق أبداً لا بدَّ أن يشمل كلّ الجداول المتعطشة للعطاء، المبتهلة بالدعاء لهذه الأيادي الحانية الكريمة.
رؤى.. ومقترحات
وأمام هذه الاهتمامات الأثيرة من ملك الإنسانية ورحابة صدره لاستقبال كل ما من شأنه إسعاد أبنائه المواطنين وشمولهم بالرعاية والعناية والاهتمام فإنني أقدّم مقترحاتي التالية لتغطية متطلبات تهمّ الأسرة، وتسدُّ فراغات تشغل هواجسها لا يدرك أبعادها سوى من عانوا شظف العيش وقسوة الحياة، ولم تتمكن دخولهم المحدودة من تغطيتها، وهي تتركز في أهم عناصر الأسرة كما يلي:
أولاً: الأم: أساس بناء الأسرة، ورائدة تشكيلها، المتفرغة للبيت، مربيّة الأجيال، التي تعدّ «الجندي المجهول» في نسيج الأسرة، ومستودع أسراره، المؤتمنة على خليته منذ البداية والنشأة، وهي الحضن المعلّم المربي الذي نركن إليه كلَّ حين ثم ننساه في تراكمات انشغالاتنا كلّ حين.
ألا يستحق هذا العضو الأساس في المجتمع والأسرة لفتة تليق بمكانة (الأمّ المتفرغة للبيت) لمنحها حقها في (بيت المال) حقّها في ضمان إصلاح التربية وبناء الأسرة والمجتمع! حقّها من «الضمان الاجتماعي» الذي لا يقتصر على (نفقة الزوج) أو العائل فقط، وإنما يتجاوز ذلك إلى ما يناسب وضعها ويليق بها، ويلبي حاجتها وأمثالها ممن لا يستطيعون تأمين ذلك لتفرّغهنَّ لبيوتهنّ! فهل نعي أبعاد هذا الحق، ونتّجه إلى صيغة معينة لصرف (مخصّص شهري) لربّة البيت (الأم المتفرّغة) بصفتها عضواً أساساً في بناء الأسرة والمجتمع.
ثانياً: الطفل: هذا العضو - البشارة الذي نبتهج بحضوره إلى الدنيا ليشترك معنا في الحياة، ألم نتساءل ونحن نوقّع (شهادة ميلاده) أن من حقّه علينا أن نفتح له حساباً من خير وطنه يسهم في خدمة حاجاته ومتطلباته بصفته مواطناً جديداً نُهيئ له - بإذن الله - مستقبلاً مضيئاً بحسن التربية والتنشئة والرعاية التي تقتضي دعمها بمصروف شهري معيّن أسوة بالأعضاء الذين لا دخل لهم من (بيت المال).
ثالثاً: كبار السن: أولئك المواطنون الذين عاشوا بيننا عاملين في عنفوان شبابهم ثم استراحوا في خريف العمر ممّن «أُحيلوا إلى التقاعد» أو ممن لم يعملوا في الدولة أو القطاع الخاص، وليس لهم مخصص في الضمان الاجتماعي ألا يستحقّون منّا الرعاية والوفاء؟ وأليس لهم نصيب في «بيت المال»، فهناك كبار سن يعيشون بيننا على هامش الحياة، ينبغي أن يُلتفت لهم لتشملهم الرعاية، كما أن رفع مستوى (المتقاعدين) من المطالب التي ينبغي أن تشملها اهتمامات الدولة تقديراً ووفاء لهم.
- كما أقترح لفت النظر إلى نخبة من المشروعات المهمة التي تعثّرت على الرغم من الحاجة الملحة إلى تنفيذها وهي:
أوّلاً: شبكة السكك الحديدية:
هذه الخدمة الحيوية التي انطلقت من عهد الملك المؤسس عبد العزيز - غفر الله له - منذ حوالي ثمانين عاماً من الرياض إلى الدمام، ولم تتجاوز مسارها إلى المنطقة الغربية، أو الشمالية، أو الجنوبية على الرغم من تردّد الحديث عن ترسية عدد من مشروعاتها التي لم تر النور، على الرغم من سرعة تنفيذ (قطار المشاعر بمكة المكرمة) في موعد قياسي.
ثانياً: توفير شبكة الغاز للرياض والمدن الأخرى:
منذ أكثر من أربعين سنة كنا نسمع بمشروع خدمة شبكة الغاز من المنطقة الشرقية إلى منطقة الرياض والمناطق الأخرى، إلاّ أن حلم المواطنين بتوفير الخدمات باء بالفشل، وما زالت المعاناة من نقل أسطوانات الغاز تشغل هاجس كل المستفيدين من هذه الخدمة في ظلّ زيادة قيمة استهلاك الكهرباء التي تثقل كاهل محدودي الدخل الذين تقلقهم هذه المعاناة، وقد نسي معظمهم تحقق الحلم، فهل ثمّة مبادرة فعّالة إلى تحقيقه لخدمة شرائح مهمة من المجتمع؟!
ثالثاً: دار المرضى النفسيين:
أعضاء مهمة في نسيج المجتمع، لهم في وجداننا وفي حياتنا حضور أثير، تقلق هواجسنا معاناتهم، وقد عنيت التوجيهات السامية بشأنهم، وصدرت الموافقة عام 1406هـ على تأمين دارين في منطقة الرياض لرعاية المرضى النفسيين الناقهين والاهتمام بحالاتهم وأوضاعهم، ومن ذلك التاريخ حتى الآن لم ينفّذ التوجيه السامي الكريم لتوفير هاتين الدارين المناسبتين لرعاية هذه الأعضاء المهمة في كيان المجتمع، ولا بُدَّ لي وقد كتبت عن هذا الشأن سابقاً أن أؤكد طلبي هنا بتأمين دار مناسبة لرعاية المرضى النفسيين الناقهين، وأولئك الذين لا يوجد من يرعاهم ممن يجوبون الشوارع دون مأوى من الحالات المماثلة، وحبذا أن تنشأ هذه الدار أو الدور على موقع يحتوي مساحات كبيرة، ومرافق ومسارات مناسبة وفق دراسات اجتماعية ونفسية اختصاصية لتحتضن هذه الأعضاء المهمة ورعايتها واستكمال علاجها في أجواء مناسبة لتأهيلها.
ولأن هذه الخدمة تُسهم في توثيق وشائج الصلة بين سكان المدن والمناطق وتلبي خدمات سكانها ومصالحهم وتوفّر وسيلة النقل المثلى، فينبغي المبادرة إلى تحقيقها والمبادرة إلى البت في تنفيذها باتخاذ القرار المحقق للمصلحة العامة.
هذه أشتات من الاهتمامات التي تشغل بال شريحة من المواطنين، آمل أن تحظى بالرعاية والاهتمام في سبيل الإصلاح والإتقان، والله الموفق.