قال تعالى في محكم كتابه العظيم: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}، جاء في تفسير بن كثير: («وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا») أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة
الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة «وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا» أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح؛ «وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ» أي أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك «وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ» أي لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض وتسيء إلى خلق الله «إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ»).
وقال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
قال بن كثير: (ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض وما أضره بعد الإصلاح فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الإفساد بعد ذلك كان أضر ما يكون على العباد فنهى تعالى عن ذلك وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه فقال «وادعوه خوفا وطمعا» أي خوفا مما عنده من وبيل العقاب وطمعا فيما عنده من جزيل الثواب ثم قال «إن رحمة الله قريب من المحسنين» أي إن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره).
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}؛ وروي عن ابن عباس قوله في سبب نزول الآية: (نَزَلَتْ فِي قَطِيفَة حَمْرَاء فُقِدَتْ يَوْم بَدْر فَقَالَ بَعْض النَّاس : لَعَلَّ رَسُول اللَّه أَخَذَهَا فَأَكْثَرُوا فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّه «وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْم الْقِيَامَة») فالله سبحانه وتعالى نزه رسوله صلى الله عليه وسلم من «أَنْ يَغُلّ» وتوعد من يغلل بعذاب أليم؛ وروي عن الرسول الكريم قوله: (من استعملناه على عملٍ فرزقناه رزقًا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)؛ وروى البخاري في صحيحه عن أبي حميد الساعدي أنه قال: استعمل النبي، صلى الله عليه وسلم، رجلاً من بني أسد يقال له: ابن اللتبية على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أُهدي إلي، فقام النبي، صلى الله عليه وسلم، على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول هذا لك وهذا لي فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر).
محاربة الفساد بكافة أشكاله من أهم مقومات الإصلاح؛ ولا يمكن أن يكتمل البناء دون أن يهتم الباني بالقضاء على الفساد بأنواعه المختلفة؛ ومن هنا نجد حرص خادم الحرمين الشريفين على مكافحة الفساد، واهتمامه بمواجهته بكل شفافية، والعمل على وضع الأنظمة والقوانين الكفيلة بالحد منه. ففي خطابه الذي ألقاه تحت قبة مجلس الشورى لدى افتتاحه أعمال السنة الثانية من الدورة الرابعة، قال حفظه الله: (إننا لا نستطيع أن نبقى جامدين والعالم من حولنا يتغير ومن هنا سوف نستمر بإذن الله في عملية التطوير وتعميق الحوار الوطني وتحرير الاقتصاد ومحاربة الفساد والقضاء على الروتين ورفع كفاءة العمل الحكومي).
محاربة الفساد والقضاء عليه تحقق المنفعة العامة و العدالة، وتضمن جودة الأداء وكفاءة العمل، وسلامة المشروعات الحكومية من الغش والتجاوز، وتُبقي أموال الدولة وأراضيها بعيدة عن أيدي مخالفي الأنظمة والقوانين، وتضمن تحقيق هدف التطوير وتحرير الاقتصاد وقتل البيروقراطية التي يتعمدها البعض لفتح أبواب الفساد على مصراعيه.
قصور أداء المؤسسات في القطاعين الخاص والعام، يقود إلى حدوث الفساد، وعلى الرغم من خطورة الفساد على القطاعين، إلا أن خطورته على القطاع العام أشد وطأة، وأكثر إضرار بالمجتمع، فالقطاع العام هو من يقود القطاعات الأخرى، وهو المرجعية لكل منشآت القطاع الخاص؛ فإن صلح، صلح الكيان كله، بإذن الله.
والفساد تحركه الأطماع، والرغبات الجامحة، إلا أن ضعف الرقابة الذاتية؛ الخشية من الله عز وجل؛ وضعف الرقابة الخارجية، وهي الرقابة الحكومية يساعد على تفشي الفساد بأنواعه في المجتمع؛ الفساد المالي، الإداري، السياسي، والأمني أيضا.
الفساد قادر على تقويض جميع الإصلاحات الإدارية والاقتصادية، أو ربما إبطائها، والعبث في برامجها الطموحة. لذا تحرص الدول المتقدمة على تطهير هذا الجانب لضمان مخرجات التنمية، ولتحقيق الكفاءة في الإنفاق الحكومي، وسلامة الاقتصاد، إضافة إلى تحقيق جودة الأداء في القطاعات الحكومية وعلى رأسها القطاعات الأمنية. العدل أساس الحكم، والنزاهة ومحاربة الفساد، من أساسات العدل الذي لا يمكن للشعوب والمجتمعات التطور بمعزل عنه.
في التسعينات الميلادية، نفذ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي برامج متخصصة لمعالجة الفساد، ومنذ ذلك التاريخ وهو يقوم بدور فاعل في هذا الجانب. البرنامج قدم المساعدة لكثير من دول العالم الثالث، وهناك دول استفادت منه استفادة كبيرة. اليوم نجد أن هناك مؤشرا عالميا يعنى بقياس حجم الفساد في كل دولة، وعلى ضوء ذلك يقوم بوضع دول العالم في مراكزها المستحقة في قائمة الدول الأكثر والأقل فسادا. للأسف الشديد فموقع المملكة في ذلك المؤشر جاء متأخرا ما يعني أننا نعاني بالفعل من مشكلات الفساد التي لم ينجو منها مجتمع، وتبقى العبرة في حجمه مقارنة بالآخرين!.
أعتقد أن مشكلة الفساد تمثل أحد التحديات الكبرى في السعودية. فعلى الرغم من الإنفاق الحكومي التوسعي تأتي مخرجات التنمية أقل من المتوقع؛ وعلى الرغم من الدعم اللامحدود من خادم الحرمين الشريفين للقطاعات الاقتصادية نجد أن الاستفادة منها تكون محدودة، ومقتصرة على شرائح أو مجموعات صغيرة، وهو ما يؤثر سلبا على أداء الحكومة، ونظرة الرأي العام لها. إضافة إلى ذلك فأداء الإدارات الحكومية بات مترهلا لا يتوافق مع متطلبات العصر، ومثل هذا الترهل القاتل يدفع نحو خلق بيئة قد يجد الفساد فيها ملجأ، ومن هنا تأتي أهمية القضاء عليه في مهده من خلال الرقابة الصارمة، والمحاسبة، ومن خلال تطوير الأداء الضامن لإنجاز الحقوق في وقتها.
المملكة، ومنذ تولى خادم الحرمين الشريفين مقاليد الحكم، تُبحر في بحر الإصلاح، والإصلاح لم يتوقف عند قطاع بعينه، بل طال جميع القطاعات ومنها القضاء، التعليم، والاقتصاد؛ بل إن إستراتيجيات التنمية أعاد تشكيلها الملك عبدالله بما يضمن تحقيق العدالة لجميع المناطق، فأطلق «إستراتيجية تنمية المناطق» التي أثبتت الأيام أنها الغاية التي كنا نبحث عنها منذ زمن بعيد.
هناك علاقة طردية بين ثقة المواطنين بالدولة، والحكومة من جهة، وبين برامج وإستراتيجيات مكافحة الفساد من جهة أخرى؛ فالقضاء على الفساد، ومحاسبة المقصرين، وتحسين الأداء يقود إلى زيادة ثقة المواطنين في حكوماتهم، والعكس صحيح؛ لذا يمكن القول إن مكافحة الفساد يمكن أن يكون المدخل الرئيس لنيل ثقة الشعب، ورضاه. الفساد، باب تلج منه المشاكل العظام، وهو الذريعة التي يستغلها أعداء الأمة في إثارة الشارع، وتأليب الشعوب على حكوماتها؛ «الفساد» كان الشعار الرئيس لجميع الثورات التي حدثت في العالم، وفي مقدمها ما حدث في بعض الدول العربية.
لا يكفي أن يكون الحاكم مصلحا منصفا إذا لم تكن لديه الحكومة القادرة على تنفيذ مخططاته الإصلاحية، وفق أنظمة وقوانين يتم مراقبتها من هيئة مستقلة قادرة على تقويم الأداء والمحاسبة. ربما تكون المجالس البرلمانية جزء من المؤسسات المعنية بمكافحة الفساد من خلال مراقبة الوزراء، والمشروعات ومساءلتهم عن خطط التنمية، وبرامجهم الإنمائية. البرلمان عادة ما يكون صوت الشعب، وعين الحاكم، فيضمن إيصال متطلبات الشعب للجهات الرسمية ويضمن أيضا مراقبة الوزارات الحكومية ومساءلتها عن برامجها المختلفة، وتعاملها مع القرارات النافذة؛ مجلس الشورى قادر على ممارسة هذا الدور بكفاءة؛ مع بعض الصلاحيات الرقابية، بما فيها الاستجواب؛ يمكن أن نضمن جهة أخرى لتحقيق النزاهة من خلال المراقبة والمتابعة الدقيقة للوزارات التنفيذية. ربما أننا لم نصل بعد إلى هذا المستوى المتقدم من الرقابة على أداء الوزارات، وهنا تكون الحاجة ملحة لوجود هيئة مستقلة لمكافحة الفساد وتحقيق النزاهة. يخطئ من يعتقد أن الفساد حكرا على الدول العربية، فالحقيقة الواضحة أن دول العالم تعاني من الفساد المستشري، ومنها دول الغرب المتحضر إلا أن وجود الهيئات المعنية بمكافحة الفساد يحول دون تحوله إلى داء عضال، أو على الأقل، يمكن السيطرة عليه من خلال محاكمة المخطئين، ومحاسبتهم، وإيقاع العقوبة عليهم، فيكونون عبرة للآخرين. فلا أحد فوق القانون.
تعتمد الإدارة الرشيدة للتنمية على قوانين وأنظمة قادرة على تحقيق النزاهة، ومحاربة الفساد؛ فمن خلالها يمكن ضمان النتائج الجيدة، وإنجاح برامج التطوير، وإصلاح الاقتصاد. تعزيز الشفافية والنزاهة وتنفيذ قوانين مكافحة الفساد يؤدي إلى دعم التنمية، ويحقق الأمن الوطني، ويرسي قواعد الحكم الرشيد الذي يمثله بكل جدارة، خادم الحرمين الشريفين، الملك المُصلح العادل.
للأسف الشديد، فالأمم المتحدة، والدول الغربية باتوا يركزون كثيرا على مكافحة الفساد، وسن القوانين والأنظمة، وتقديم البرامج التطويرية للدول الإسلامية، في الوقت الذي نجد فيه أن أصل النزاهة ومكافحة الفساد أوجدها الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم. فالإسلام يقوم على النزاهة، والشفافية، والوضوح، في العقيدة، والنصيحة، والعمل، والذمم وهو ما يفرض علينا أن نكون أول القائمين على تفعيل هذا الجانب في حياتنا العملية اعتمادا على الرقابة الذاتية، وهي مخافة الله سبحانه وتعالى؛ إلا أن ضعف الرقابة الذاتية لدى البعض هو ما دفع بولي الأمر إلى تبني إنشاء هيئة مستقلة لمكافحة الفساد.
أجزم بأن الملك المصلح عبدالله بن عبدالعزيز ومن خلال قراره الحكيم بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد يعي تماما متطلبات المرحلة المقبلة، ويود أن يؤسس لها قواعد صلبة من العدالة والنزاهة والمحاسبة التي يمكن أن تحقق الحماية الكافية لكيان الدولة، ومقدراتها التي وهبها الله.
ارتباط الهيئة بالملك مباشرة يعطيها القوة القانونية، والدعم المباشر، ويجعلها قادرة على مباشرة القضايا المرتبطة بالفساد دون تحفظ، أو اعتبارات خاصة. تولي الهيئة الإشراف على كافة القطاعات الحكومية، دون استثناء، وإسناد مهام متابعة تنفيذ الأوامر والتعليمات الخاصة بالشأن العام، إضافة إلى متابعة أوجه الفساد الإداري والمالي يجعلها قادرة على تحقيق الأهداف السامية التي وضعها ولي الأمر، والتي يتطلع إلى تحقيقها الشعب السعودي.
النزاهة، العدل، والشفافية من مقومات الحكم الرشيد، وهي ما يعتمد عليها خادم الحرمين الشريفين، في قيادته المباركة لأرض الحرمين، ويسعى جاهدا، وبكل ما أوتي من قوة لتفعيلها، وتطبيقها في جميع مناشط الحياة، وإدارة الحكم؛ ومن أجل ذلك، وفقه الله لإنشاء «الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد» وهي الهيئة التي نسأل الله أن يوفقها إلى ما فيه خير البلاد والعباد، وأن تحقق تطلعات ولي الأمر وآمال المواطنين.
ولي الأمر، ومواطنيه يعلقون على الهيئة أمالا عريضة في مكافحة الفساد، وجعل النزاهة القاعدة التي تقوم عليها أعمال القطاعين الحكومي والخاص، فكلاهما مرتبط بالآخر؛ فنزاهة الأداء الحكومي تقود بالتبعية إلى تحقيق نزاهة القطاع الخاص. بقي أن نشير إلى أن معظم الاضطرابات الأخيرة في العالم العربي حدثت بأسباب الفساد، الذي بدأ صغيرا ثم تحول إلى وحش كاسر تسبب في نشر الفقر، التخلف، والمشكلات الاقتصادية بأنواعها المدمرة، ما يعني أن مكافحة الفساد، وتحقيق النزاهة يقودان نحو تحقيق الرخاء الاجتماعي، وتوفير العيش الكريم، وضمان العدالة، والاستقرار، والأمن، ودعم الاقتصاد وتحقيق التنمية، ورضى المواطنين، وهو ما يتحقق به رضى الله سبحانه وتعالى، فينزل بركته على الراعي ورعيته. فالتقوى أساس النزاهة، وهي من مسببات الرزق والبركة؛ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
F.ALBUAINAIN@HOTMAIL.COM