تتحفنا قناتنا الفضائية، لا فض فوها، بموزاييك متنوع من كل ما طرف وندر من أمور الثقافة. وهنا نقصد بالثقافة الثقافة العامة التي تدخل ضمنها جميع أطياف منتجات الفكر المجتمعي بغثها وسمينها، وقضها وقضيضها. والقناة تذكر المشاهد بدفاتر «الكشكول»
التي تجمع في ثناياها كل ما هب ودب من مواضيع لا رابط ولا تناسق بينها. وأجزم أن كائن من كان، بصرف النظر عن مستواه الثقافي أو العلمي يستطيع أن يقدم نفسه كمثقف في هذه القناة. والعتب، أغلب الظن يقع على «الأوت صورصنق»، ومع كامل المعذرة للغة العربية، فهذا التعبير يقصد به أن تريح مخك وتدفع ميزانية مصلحتك لجهات خارجية تقوم بالعمل بدلاً عنك. وإذا كان المثل الشعبي يقول: «أعط الخبز خبازه حتى ولو أكل نصفه»، فما المانع أن تعطي الخبز للحام إذا كان في النهاية سيعطيك نصفه.
أحمل كامل التقدير والاحترام والتبجيل لوزيرنا المثقف اللطيف عبدالعزيز خوجة، فله مواقف جليلة في أيام تجارب عصيبة.. وله في الثقافة باع طويل يجعله خبير بعجنها ولتها، وخبزها بما يرفع سقف التوقعات من قناة يشاهدها هو كما يشاهدها سائر المواطنين. كما أن القناة تشاهد في الخارج، وقد يحكم المشاهدون في الخارج على مستوى الثقافة المحلية من خلالها، وقد يتساءل بعضهم: هل هذا هو مستوى الثقافة السعودية بحق؟.
في أحد البرامج الثقافية المخبوزة على السريع، سمعت نقاشاً بين فتاة متثاقفة وشاب متشاعر حول ذكورية الشعر السعودي، وجر الحديث المتحاورين إلى سؤال آخر عما إذا ما كنا نحن شعب ذكوري، وثقافتنا ذكورية. وكانت الإجابة القاطعة بنعم. ولا يمكن هنا توجيه اللوم إلى الفتاة والشاب لأنهما جزء من منظومة متكاملة تخلط في الثقافة وتردد المصطلحات الرنانة دون وعي أو تأصيل لها لأن في ذلك لزوم لما يلزم المظهر الثقافي. والبعض من مثقفينا يجهل أن هذه المصطلحات تنتظم في سياقات مفاهيمية معينة يصعب تفسيرها خارجها.
وكنا في السابق نقلب الحيوان لنتأكد من جنسه هل هو ذكر أو أنثى، فهناك علامات بارزة في هذه الحيوانات تدل على جنسه. وتعجبت كيف تم الحكم على ثقافتنا بأنها ذكورية، هل تم الكشف عليها بطريقة مشابهة. هل في الثقافة ذكر وأنثى؟ وهل خطوط التفريق بينهما واضحة بشكل جلي كما يقع في مخيلة البعض، ربما!.. وإذا كان الأمر كذلك، سيلام الكثير من المثقفين «البسطاء لعدم الغوص لهذا العمق الثقافي.
وصف المجتمع بأنه ذكوري أو أنوثي (نسوي) أطروحة تعود لفريدريك إنجيلز، صديق عمر الفيلسوف المادي الأشهر كارل ماركس. وكانت هذه الأطروحة موضوع كتاب له أسماه «أصل العائلة»، حاول فيه إعادة كتابة تاريخ البشرية من منطلق مادي. وفيه زعم أن العائلة هي الركن الأساس في التنظيم اجتماعي البرجوازي، وهدفه السيطرة على الطبقة الكادحة، وأن الشيوعية ستقضي حتماً على هذا التنظيم العائلي الظالم الذي يهدف للسيطرة على وسائل الإنتاج. فالحياة في نظر إنجلز كانت مشاعة، والمجتمع في بدايته كان مجتمع أنثوي، أو بعبارة أصح «أمومي» من كلمة «أم»، لأن الإنسان البدائي في البداية كان مشدوهاً بعملية ولادة الأم وخروج الجنين من جوفها. وبما أن كل شيء كان يتم على المكشوف في ذلك الوقت، فعبد الإنسان البدائي في البداية أجزاء من المرأة، ثم قدس الباقي. ثم جاءت الملكية الفردية، رجس الأرجاس، وأم جميع الأدواء البشرية في نظر الماركسية، وتملك الرجل الأرض والمرأة معاً، فتحول المجتمع إلى مجتمع أبوي أي ذكوري. وصدّق هذا الكلام بعض المتحمسين للشيوعية آنذاك. وتبنته فيما بعد بعض الباحثات الاجتماعيات، والباحثات في علوم الأنثربولوجيا مثل مارجريت ميد، وبعيد فترة الحرب الأمريكية الفيتنامية وجد هذا الكلام استحساناً كبيرا لدى الحركة النسوية في أمريكا وأوروبا. وهذا الطرح بالطبع يقتصر على الإنسان ولا يشمل الحيوانات الأخرى التي لم تمر بهذه المراحل ولا زال العمل مقسماً بينها على أساس ذكوري!.
الشاب المتحمس، والمذيعة «المسقفة» جزما بأن الثقافة السعودية ذكورية، فهذا واضح في كل مظاهر الثقافة لدينا، خاصة لدى كتّاب الروايات، وهنا قد يتفق كثير من الناس معهم حسب تفسير معيّن. ولكن ذلك عمم لجميع جوانب الثقافة بما فيها الكتابة، والأدب، والأرث الثقافي، وحتى كتب الطبخ والتدبير المنزلي، التي هي بحسب تعريف عالم الثقافات الأمريكي «ستيوارت هل» جزء أساسي من «الثقافة الشعبية» التي تقف بمقابل «الثقافة العليا» المحتكرة من قبل الثقافة البرجوازية الذكورية. وللذكر فقط، فغناء الراب وموضات طيحني، والكدش وغير ذلك من أمور غزت بها أمريكا شعوب كثيرة، هي مكونات أساسية لهذه الثقافة.
للإجابة على سؤال المقال، الكاتب يرى أننا كنا مجتمع ذكوري، ولكننا وللأسف لم نعد ذكوريين بما فيه الكفاية، فقد فقدنا الكثير من ذكوريتنا. ومع الأخذ بعين الاعتبار أننا مجتمع له خصوصيته، ولا أقصد هنا الخصوصية الانغلاقية، كنا نحترم المرأة بشكل مثير للعجب انطلاقاً من ذكوريتنا، وفروسيتنا. كنا نحترمها ونقدم لها كافة حقوقها. كنا نحترمها كأم نبر بها، وكأخت نصونها، ونفتخر وننتخي بها. كان الرجال يشببون بها علناً في الشعر فقط مما يزيدها فخراً بنفسها وتبختراً بجمالها وأنوثتها، ولم يكن ذلك مثار عيب أو شك. كانت تعمل بيننا وتلقي التحية على الجار والقريب بدون أن يطير العقل لأفاق أخرى. بل كانت المرأة في قرانا تمر تحمل الماء وثيابها مبللة بشكل يجسدها بالكامل ويعيب المجتمع على من ينظر إليها. هذه هي ثقافتنا الذكورية التي يجب أن تعرّف بها قناتنا الثقافية، إلم يكن للآخرين فلأجيالنا الجديدة التي لا يستطيع المرء أحياناً الجزم بجنس البعض منها.
أما اليوم فقد فقدنا تلك الذكورية الفروسية الجميلة كما فقدنا كثيراً من أمور نخوتنا ومروءتنا الأخرى، التي كانت في مجتمعاتنا تحرص على صون الأرض والعرض، وتبنينا بدلاً عن ذلك ذكورية الكدش، ذكورية الإيذاء والملاحقة والترقيم بدون أي حياء أو خجل. كما أن الذكورية المستأنثة دخلت عقول بعض فتياتنا، فلم يعد الحياء حياء ولا الأنوثة أنوثة.
مثل هذه المواضيع كان يجدر بنا مناقشتها، لا عاطفياً ولا وعظياً ولكن بشكل موضوعي ينطلق من موروث ثقافتنا التي هجرناها واستبدلناها إما بثقافات أجنبية مستوردة، أو أخري محلية منغلقة. وهذا هو المنتظر والمتوقع كأحد الأدوار الثقافية لهذه القناة المبجلة. وكلمتي الأخيرة هي للمسؤولين عن هذه القناة هي أن: «الأوت صورصنق»، والبرامج الرخيصة، قد يكون غير مناسبة لهذه القناة، فإما أن يكون لدينا مثقفون وثقافة حقيقية، أو لا لزوم لقناة ثقافية.