|
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
إن سيادة الشريعة في المملكة العربية السعودية متحققة -بحمد الله- بكامل البيان والسلطان، حيث اجتماع العلم والعمل والدين والسياسة في دولة شعبها على قلبٍ واحد إيماناً بالله وتسليماً لحكمه، واجتماعاً على ولاة أمره؛ فبهذا وعلى هذا استقر مجتمعنا وانطلق بناؤنا وتوثقت اللحمة بيننا.
ومن تلك اللحمة ما ظهر من وقوف المجتمع صفاً واحداً أمام تلك الأحداث والدعوات وبواعث الفتن وهذا كله من علامات توفيق الله -سبحانه وتعالى- ونعمته وفي الوقت نفسه دلالة عميقة على الوعي الشرعي والسياسي والاجتماعي لدى هذا الشعب وحكومته نحو استقرار بلادهم وأمنها وحفظ كيانها لتبقى مناراً شامخاً -بفضل الله- وقلباً نابضاً يعنى بالإسلام وأهله وقضاياه وحصناً أميناً آمناً لأفئدة المسلمين برعاية الحرمين الشريفين وقاصديهما محققاً مفهوم الأخوة في الدين كما قال عز شأنه: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ?.. فأهل الإسلام إخوان وأولياء بعضهم لبعض، لا يصدهم عن ذلك اختلاف أنساب، ولا تباعد مواطن ولا اجتهادات في مواقف.
وإن من كريم نعم الله علينا وجزيل فضله هذه البشائر المباركة المنظومة في سلك الرعاية الملكية التي انطلقت من سمو الشرع ورحمة الخلق في الأوامر الملكية لترسخ الالتزام بالشريعة في حكمها والتحاكم إليها في معناها ومبناها فقد انتظمت هذه الأوامر السامية جملة من المعاني والمقاصد الشرعية منها:
أولاً: الشكر للمحسن في عمله، شكر هذا الشعب الكريم؛ فقد حرص خادم الحرمين الشريفين أن يقدر لأبنائه وبناته المواطنين، دورهم الكبير في بنائهم الوطني، وإسهامهم الفاعل في تشييد صروحه، وقيام مؤسساته على ما عهده فيهم من الصدق في القول، والجد في العمل، على قاعدة راسخة من الروح الوطنية العالية في منظومة قافلة الخير ومسيرة العطاء والنماء، مستصحبين في هذا المشهد الميمون عموم قول الحق سبحانه: ?وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ?.. وما أبدوه من وعي ويقظة وإدراك لكل ما يحيط به وعدم انجرافهم أو انجرارهم وراء بعض الأبواق الإعلامية الموقظة للفتن الباعثة على الفوضى وكفران النعم؛ نعم الأمن والاستقرار والاجتماع على السمع والطاعة والنصح والإخلاص فلله الحمد والمنة.
والتقدير العظيم لرجال أمننا ومواقفهم المشرفة وولائهم لدينهم وقيادتهم وشعبهم وملكهم.. ولا شك أن هذا مؤشر صادق على مفهوم المشاركة في تحمل المسؤولية وتفاعل الشعب مع قيادته، حيث عكس الطاقات التي تمت والتي يجب أن تتم نحو بناء هذا الكيان -بلاد الحرمين الشريفين- ورعايته وصيانته.
ثانياً: أما صيانة الدين وربط العلم بالعمل فقد تجلت فيه العناية الملكية من لفتات كريمة منها:
1 - العناية بمحاضن القرآن الكريم ودعم سبل نشره تأكيداً لعناية القيادة الحكيمة لتكريم كتاب الله وحفظته وفق الخيرية الواردة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
2 - العناية بالفتوى والإفتاء من خلال توسيع نوافذ التواصل العلمي بإبراز الفتوى ودورها في تحقيق الحصانة الشرعية للمجتمع وبيان موقعها من نسيج هذه الدولة المباركة اسماً ورسماً.
3 - دعم شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وامتداد تعزيزها وذلك امتثالاً لقوله تعالى: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ?.. وقوله تعالى: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ?.. وإيماناً من ولاة أمر بلاد الحرمين -حفظهم الله وأعزهم- بأهمية شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأثرها العظيم في سلوك المجتمع المسلم، وحرصاً على دعم هذه الفريضة الإسلامية التي أولتها المملكة ما تستحق من العناية والرعاية، اعتزازاً منها برفع شعارها، ودعم رجالها، ورعاية أعمالها.
4 - العناية ببيوت الله باستدامة إعمارها وصيانتها لتهيئتها لتعمر بالإيمان الجالب للأمان.
5 - تأسيس المجتمع الفقيه إنشاء للبيئات العلمية من أجل مخرجات علمية تقوم على البحث والعناية بنصوص الشريعة ومقاصدها وبناء المسائل على الدلائل وفق فهم السلف الصالح وترسيخ الآراء السديدة للمجتهدين وحاجات المجتمع كل ذلك في رواق علمي فقهي فاعل بإذن الله.
ثالثاً: مكافحة الفساد وقمع الإفساد في الحال والمآل انطلاقاً من قول الله تعالى: ?وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ?.. واستشعاراً من المقام الكريم للمسؤولية الملقاة على عاتقه في حماية المال العام، ومحاربة الفساد، والقضاء عليه، على هدي كريم من مقاصعد شريعتنا المطهرة التي حاربت الفساد، وأوجدت الضمانات، وهيأت الأسباب لمحاصرته، وتطهير المجتمع من آثاره الخطيرة، وتبعاته الوخيمة على الدولة في مؤسساتها، وأفرادها، ومستقبل أجيالها، فعلى عقلاء الأقوام وأصحاب الأحلام منهم إذا رأوا دبيب الفساد في عامتهم وأن يبادروا للسعي إلى بيان ما حل بالناس من الضلال في نفوسهم، وأن يكشفوا لهم حقيقته وشبهة وعواقبه، وأن يمنعوهم منه بما أوتوه من الموعظة والسلطان، ويزجروا المفسدين حتى يرتدعوا، فإن هم تركوا ذلك، وتوانوا فيه لم يلبث الفساد أن يسري في النفوس وينتقل بالعدوى والتعاون حتى يعم أو يكاد، فيعسر اقتلاعه من النفوس.
رابعاً: كما أكدت تلك الأوامر القاعدة المتينة من الترابط بين ولي الأمر والعلماء تأكيداً لتكريم الله للعلم وأهله وذلك انطلاقاً من قول الحق جل وعلا: ?يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ?، وقوله تعالى: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء?، واستشعاراً من مقام خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- بما يجب نحو عُلمائنا الأفاضل، وهم أهل العلم، وحراس العقيدة، ومَنْ حباهم الله بحسن الهدي، وعلو السمت، على جادة شرعنا المطهر، بوسطيته واعتداله، وسعة أفق حملتِهِ، المنعكس في فتاواهم، وقراراتهم، وبياناتهم، ومحاضراتهم، فمثلوا -بحمد الله- الامتداد العلمي لسلفنا الصالح، في سياق مبارك لا نستغربه من عُلمائنا الموفقين بفضل الله عليهم للنهل من معين الكتاب والسنة، بعيداً عن مزالق البدع والأهواء، والغلو والتطرف، على محجة بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
لذا حرص رعاه الله على أن يعكس الإعلام نهج الدولة المستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لتحقيق ذلك في آداب التعامل مع علمائنا من خلال عدم المساس أو التعرض لسماحة مفتي عام المملكة، وأصحاب الفضيلة أعضاء هيئة كبار العلماء، بالإساءة أو النقد إقامة لصدق التواصل بين الإعلام والإعلام.
خامساً: حمل هذه الأوامر هذا الدعم المالي الكبير المباشر الذي وسع على المواطنين في كافة شرائحهم ومبتغاهم التوسعة استهدافاً لمزيد من رغد العيش في معاشهم وصحتهم وسكنهم كما تصمنت التوجيه الجهات المختصة مراقبة الأسعار وحماية المستهلك تحقيقاً للعدل بين الجميع والمواطنون من خلال هذه الأوامر أدركوا تطلعات خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- نحو صيانة المال العام والاسفادة من مقدرات هذه البلاد المباركة، لذا جاء هذا التعزيز الإيجابية في إطار منطقي متفاعل مع متطلبات الرعية الملحة لتكريس الرفاهية المتزنة.
وهذا عنوان ارتباط الشريعة بالسلطان وسياسة الدنيا بالدين في هذه البلد المباركة، وذلك من خصائصه، حين يتحقق امتزاج الحكومة مع الشريعة بتعميم الشريعة، واتحاد الأمة في العمل والنظام.
وكذلك اعتزازٌ بشرع الله والحكم به وصيانته ورعاية البلاد والسير بها نحو النهضة والتنمية تسوقها أياد أمينة من رجالات هذه البلاد المباركة تراقب الله في سرها وعلنها. سائلاً المولى العلي القدير أن ينفع البلاد والعباد بأبنائها وبناتها على نهج الشريعة ولحمة صادقة بين ولاة الأمر والعلماء وكافة النخب الصادقة في قولها ونصحها وسيرها.
* رئيس المجلس الأعلى للقضاء