زيد بن أرقم، واحد من شباب الصحابة، فَنَمَى عقله قبل نموِّ جسمه، وارتفع به قدماه في الطول البدني، فكان من الرجال الصادقين، في محبته لدين الله، وحرصه على امتثال أمر الله، فيما شرع سبحانه لعباده.
قال عنه الصفدي في الوافي بالوَفَيَات، هو أحد الذين استصغرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم أحد فردّهم.
وهم: زيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وعُزَابَة بن أوس ورجل من بني حارثة، ورافع، فتطاول له رافع، فأذن له، وجابر بن عبدالله، وسعد بن حَبْتَه، وزيد بن ثابت (15: 22).
ومن حماسة هؤلاء الفتية، وحبهم للسبق في ميدان الجهاد، حيث ينطبق على كُلّ واحد منهم. المثل القائل: فلان سبق عقله علمه، وعلمه أكبر من جسمه.
ولئن حصل الاختلاف في تاريخ ولادته، فإنه قد ثبت أنه كان يتيماً، في حجر عبدالله بن رواحة، رضي الله عنه، وسار معه إلى مؤتة، كما ثبت من وجوده، أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبع عشر غزوة، ولم يكن ليشهد غزوة في العام الثامن الهجري، إلا بعد بلوغه الحلم، وقدرة جسمه، وجرأته على التحمل والثبات، ولعل عمره أربعة عشر (14) عاماً عندما حضر هذه الغزوة، التي في الكوفة، ومات فيها، فيكون قد بلغ أربعاً وسبعين من العمر، وتوفي سنة ست أو ثمان وستين من الهجرة وروى له الجماعة.
ومع قلة ما دوّن في سيرته من معلومات، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، لأن ألسنتهم أبت إلا أن تخرج ما كان مكنوناً في الصدور، فقد روى البخاري في تفسير سورة المنافقين، ومسلم في أول سورة المنافقين وأحمد والطبراني، عن زيد بن أرقم، قال: كنت مع النبي صلى الله عيله وسلم، في غزاة فسمعت عبدالله بن أبيّ بن سَلول، يقول: لا تُنْفِقُوا على من عند رسول الله، حتى ينفضُّوا من عنده، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز، منا الأذل، فحدثته به عمّي، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فبعث إلى عبدالله بن أبيّ وأصحابه، فحالؤا، فحلفوا بالله ما قالوا. فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني. فدخلني من ذلك هم، وقال لي عمي: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك (سير الأعلام النبلاء 3: 168).
زادت رواية ابن الأثير: فأصابني هم لم يصبني قط مثله، فجلست في البيت، فأنزل الله تعالى: (إذا جاءك المنافقون) فبعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأها علي ثم قال: إن الله قد صدقك (أسد الغابة: 2: 276). والمهتمون بقصص السلف: يعدون زيداً واحداً منهم، ويوردون شمائل تبرز مكانته، وتبرهن على سعة علمه، وقد كان ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ذلك أن الفقهاء رحمهم الله استنتجوا في عمل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقعيداً في المسائل الفقهية، ومن ذلك قولهم: بأنه لا يجوز البيع بثمن مجهول، ولا إلى أجل مجهول، استدلالاً بمثل قول عائشة رضي الله عنها، لأم ولد زيد بن أرقم: لما سألتها بأنها باعت زيد بن أرقم، عبداً إلى العطاء، بثمانمائة درهم، فاحتاج إلى المراجع التي استعرضت سيرة حياته التي تبلغ 26 مرجعاً.
وقد أجمل سيرته الزركلي بكلمات مختصرة، فقال: زيد بن أرقم الخزرجي الأنصاري، صحابي غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، وشهد حنين مع علي، ومات بالكوفة روى له البخاري ومسلم سبعين حديثاً (الأعلام للزركلي 3 :95).
وقد اختُلِفَ أيضاً في كنيته، فقيل أبو عمر ويقال: أبو سعيد، ويقال: أبو سعد، ويقال: أبو أُنَيْسَه ويقال: أبو عامر، ولعلها كنى متعددة (الوافي بالوفيات 15 :22-23، وأسد الغابة 2: 276).
ذكر الذهبي عن يونس بن إسحاق، عن أبيه: قال زيد بن أرقم: رُمِدْتُ أي أصاب عينه الرمد - فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أرأيت يا زيد، إن كانت عيناك، لما بهما كيف تصنع؟) قلت أصبر واحتسب، قال: إن فعلت دخلت الجنة). وفي لفظ: (إذاً تلقى الله ولا ذنب لك) أخرجه الإمام أحمد والطبراني.
وفي مسند أبي يعلي: عن طريق أُنَيْسَه، إن أباها زيد بن أرقم، عَمِيَ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ثم رد الله عليه بصره. (سير أعلام النبلاء 3 :167).
حدث عنه عبدالرحمن بن أبي ليلى، وأبو عمر الشيباني، وعطاء بن أبي رباح، وعده غيرهم كان رضي الله عنه: ورعاً حافظاً حريصاً على التطبيق، مرجعاً للسائلين في كثير من المسائل، قال طاووس: قدم زيد بن أرقم، فقال له ابن عباس يستذكره: كيف أخبرتني عن لحم أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حرام؟ - أي محرم بحج أو عمرة- قال زيد: نعم أَهدى له رجل عضواً من لحكم صيد، فردّه وقال: إنا لا نأكله، إننا حُرُم. رواه أبو الزبيري طاووس (أسد الغابة 2 :276).
أما أبو المنهال فقد سأل البراء عن الصرف، فقال: سَل زيد بن أرقم، فإنه خير مني وأعلم (سير أعلام النبلاء 3: 167). وما ذلك إلا لمكانة زيد، وعلو قدره علماً وورعاً، إذ شهادة صاحبي عالم، متقدم على زيد في السن، بما تبوءه زيد من الإدراك، وحسن المأخذ، والفضلاء يتواضعون لمن يرون غير الفضل، ويعرفون لم يستحق العرفان. ويكفيه مكانه أن الله جلت قدرته صدقه، فيما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عما قاله المنافقون، وقالت لعائشة أم ولد زيد بن أرقم، يا أم المؤمنين إني بعت زيداً إلى العطاء بـ(800) درهم، فاحتاج إلى الثمن فاشتريته منه، قبل محل الأجل بـ(600) درهم، فقالت عائشة رضي الله عنها: (بئس ما شريتِ وبئست ما اشتريتِ، أبلغي زيداً أنه قد بطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن لم يتب؟ فقالت: أرأيت إن تركت وأخذت الـ(600)، قالت: نعم.. {َمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ}البقرة: 275
وقد تبع عائشة في تحريم هذا البيع، الحنفية والمالكية (معجم فقه السلف 6: 58). وقد كان زيد بن أرقم يكبر على الجنائز، عندما يصلّى عليها أربعاً، وأنه كبر على جنازة خمساً، فسأله عبدالرحمن بن أبي ليلى عن ذلك، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها رواه مسلم. وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كبرها أيضا أربعاً.
وممن ثبت عنه التكبير من الصحابة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، عندما صلى على أُمة، وعبدالله بن أبي أوفى، عندما صلى على ابنته، وزيد بن أرقم، وأنس، وعملهم هذا رآه الفقهاء حجة (معجم فقه السلف 3 :21).
وفي اجتماع العيد مع الجمعة، سئل زيد بن أرقم: أشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عيدين؟ قال: نعم، صلى العيد أول النهار، ثم رخص في الجمعة.. رواه الحاكم وصححه، ورواه أحمد وأبو داوود والنسائي وابن ماجه.
وله شاهد عند الحاكم، وصححه من حديث أبي هريرة (معجم فقه السلف 2 :3)، فرضي الله عن زيد بن أرقم، فإنه شديد الإنكار في الحق، فهو الذي أنكر على أبيّ بن أبي سلول، في شبابه، وهو الذي أنكر في كبره، على يزيد بن معاوية، نكثه بالقضيب، ثنايا الحسين، وهو الذي صدقه ربه في القرآن.