إذا أخذنا بعين الاعتبار أن التخصيص، بتعريفه المؤسسي الشائع، يعني التحويل الكلي أو الجزئي لملكية أو إدارة الفعاليات الاقتصادية التي تملكها الدولة إلى القطاع الخاص، فإن هذا التعريف يقتضي بالضرورة أن نفرق بين مفهوم الملكية العامة ومفهوم الملكية الخاصة. وتأسيساً على ذلك فإن التوجه نحو التخصيص يعني بالضرورة تغليب الملكية الخاصة على الملكية العامة، وهو ما قد يعني الأخذ بالفكر الاقتصادي الرأسمالي والذي يقوم على أساس امتلاك الأفراد للموارد الاقتصادية، وبالتالي تحكمهم في عناصر الإنتاج ووسائله، وفي الحركة التجارية بهدف تحقيق الأرباح وتعظيمها، وهي المقومات التي اصطلح على تعريفها بأسس الاقتصاد الحر. وهذا التحليل يفيد أن الأصل في الأمر هو الملكية الفردية وأن الملكية العامة للموارد الاقتصادية جاءت بحكم تعاظم الدور الاقتصادي للدولة في إدارة دفة الاقتصاد واستغلال عناصر الإنتاج ووسائله في مراحل التنمية الأولى التي تطلبت أن تقود الدولة بالضرورة دفة الاقتصاد وتوجيهه لعدم قدرة الفعاليات الخاصة على ذلك. وانطلاقاً من هذا التحليل، تكون العودة إلى الملكية الفردية بمثابة العودة إلى الأصل الطبيعي بعد أن تكون الدولة قد تمكنت من بناء قواعد الاقتصاد وتكوين هيكله بحيث تُعيد ملكية وإدارة عناصر الإنتاج ووسائله والموارد الاقتصادية إلى ملكية الأفراد سواء كانت بشكل أحادي أم جماعي، وفقاً للمؤسسات الاقتصادية الخاصة الجديدة المنبثقة عن عملية إعادة الهيكلة طالما أنها مبنية وفق سياق الملكية الفردية ومضمونها، باعتبار قدرة الأفراد الذاتية على تسيير أمور حياتهم بما يعرف في النظرية الاقتصادية بآلية السوق التي تعمل فيها اليد الخفية التي أشار إليها عرَّاب الفكر الاقتصادي آدم سميث، ومؤداها أن تحقيق الفرد لمصلحته الذاتية ستكون نواة إيجابية ومدخلاً طبيعياً لتحقيق مصلحة المجتمع كله. ولا تعني هذه الآلية ألا تكون هناك ضوابط طبيعية أو موضوعية لحماية الصالح العام دون التدخل المباشر في تأطير عمليات الإنتاج أو مراحله واستثمار الموارد الاقتصادية. ووفقاً لهذه الرؤية المنهجية، يشير الاقتصادي الإيطالي «باريتو» إلى أن تحقيق الفرد لمصلحته الخاصة دون الضرر بمصالح بقية أفراد المجتمع ستنعكس إيجابياً على رفاه المجتمع وازدهاره الاقتصادي. وهو بذلك يبرز الرؤية الرأسمالية لمفهوم الملكية الفردية التي يرتكز عليها الفكر الاقتصادي. والضوابط الطبيعية أو الموضوعية التي تهدف إلى وضع منهج الملكية الفردية في إطار المصلحة العامة تتضمن تأسيس قواعد هيكل الاقتصاد الحر وتعطي بعض جوانبه للدولة وتخصها فيما يتعلق بتوفير ما يعرف في أدبيات علم الاقتصاد بالسلع العامة كالدفاع والأمن والقضاء أو السلع شبه العامة كالتعليم والصحة، ويؤهلها لأن تكون راعية لضمان الملكية الفردية وحمايتها وفق أنظمة وقوانين وقواعد تحقق مفهوم الملكية الفردية وتخلق مناخاً مواتياً للمنافسة الحرة التي تشكل عصب المنهج الاقتصادي الرأسمالي. وهذا الربط بين الملكية الفردية والمنافسة الحرة هو الذي أعطى المنهج الاقتصادي الرأسمالي هذا الزَّخَم الذي ظل لصيقاً به وأسهم في انتشاره عالمياً. ولعل فشل تجربة الأنظمة الاشتراكية والشيوعية، التي اعتمدت على فكرة الملكية المشاعة، قد ساعد كثيراً على اتساع المد الرأسمالي في العالم بشكل عام وفي العالم الإسلامي والعربي بنسب متفاوتة. ويمكن القول إن الإسلام قد اعترف، قبل نشوء هذه النظريات الوضعية، بالملكية الفردية وجعل للفرد الحرية الكاملة في مسألة التملك كسباً وإنفاقاً ولكنه في الوقت نفسه لم يطلقها، بل وضع لها ضوابط شرعية محكمة فيما يختص بكسبها وإنفاقها تضمن تحقيق المصلحة العامة وتضمن حق الفرد في إطارها وتستهدف عدالة التوزيع. وفي تصوري أن مفهوم الملكية الفردية يتفّق مع الطبيعة الأزلية والفطرة التي خلق الله بها الإنسان. وجاءت تعاليم الإسلام الحنيف لتنظم علاقة الإنسان بملكية الموارد الاقتصادية التي أتاحها الله للناس ورضي بها المسلمون رضاء مطلقاً، فأعطى الإسلام الإنسان حق التملك في الدنيا بمفهوم الاستخلاف في الأرض، وهو استخلاف مؤقت في المنظور العام للحياة الدنيا ومسوغ لحياة الفرد الفانية، ويتفق مع طبيعة البشر وإدراكهم الفطري لتلك الطبيعة الأزلية التي لا تتبدل ولا تتغير. ومن المؤسف أن يكون للمسلمين هذا التراث الفكري الرائد وهذه الثروة العلمية الكبرى، وفي الوقت نفسه نجدهم أحياناً عاجزين عن تأطيرها نظرياً أو تطبيقها عملياً. إن في الفكر الإسلامي كنوزاً تحتاج إلى اكتشاف وتستحق أن تتصدّر اهتمامات الفكر الإنساني المعاصر. وتأسيساً على هذا التحليل، تجد فكرة التخصيص قبولاً واسعاً في الأوساط الاجتماعية المختلفة في جميع أرجاء هذا العالم بصرف النظر عن انتماءاتها الدينية أو نهجها الاقتصادي، وبخاصة بعد سقوط مبادئ الاشتراكية والشيوعية وثبوت عدم جدواها، وبالتالي فإن التخصيص فكرة تحظى باهتمام علمي وعملي يعطيها زخَماً تنموياً كبيراً تعمل التوجهات الاقتصادية الحديثة، مثل النظام الاقتصادي العالمي الجديد أو العولمة بصفة عامة، على تأصيله وتأكيده على أرض الواقع.
رئيس دار الدراسات الاقتصادية - الرياض