المقالة السابقة التي كتبتها تحت عنوان (المجالس المفتوحة.. وأهمية الاستفادة منها) أثار أحد القراء الكرام تساؤلاً حولها رأيت من الأهمية الإجابة عليه، هذا التساؤل يقول: هل المجالس المفتوحة في المملكة العربية السعودية نتيجة فقط لاقتفاء قيادة هذه البلاد النهج الإسلامي في فتح أبواب ولاة الأمر للمواطنين أم هناك توجيه أو أمر سامٍ؟
وللإجابة على ذلك رجعت لمرجعي في هذا الباب وهو كتاب الأمير الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود بن عبد العزيز (المجالس المفتوحة والمفهوم الإسلامي للحكم في المملكة العربية السعودية)، ووجدت ضمن ملحقات الكتاب تعميماً صادراً من نائب رئيس مجلس الوزراء في وقته الملك فهد بن عبد العزيز (رحمه الله) في 2-10-1401هـ، يقول نصه:
(على الوزير ورئيس المصلحة الحكومية ووكلاء الوزارة أن يحددوا ساعة في اليوم على الأقل لاستقبال المواطنين ذوي العلاقة والاستماع إلى شكاواهم المتعلقة بالوزارة أو المصلحة، إذ من خلال تلك الشكاوى يمكن التعرف على الإدارات والأقسام محل الشكوى وبالتالي يتم البحث عن أسباب الشكوى والعمل على حل ما يعترض تلك الإدارات من صعاب) أ.هـ.هذا أمر صريح بفتح المسؤول أياً كان، أميراً أو وزيراً أو وكيل وزارة بابه مهما كانت مسؤولياته كل يوم على أقل تقدير ساعة من ساعات الدوام الرسمي لاستقبال المراجعين ليكون على دراية تامة بما يدور في أقسام وفروع وزارته وأن لا يكون اعتماده فقط على ما يرده من كبار موظفيه والمحيطين به، والذين في الغالب أنهم دائماً ما يقولون المقولة المصرية الشهيرة (كل شيء تمام يا فندم)، وهذا هو السبب في تضرر مصالح المواطنين وتأخر معاملاتهم، بل وتقهقر التطور في الكثير من الوزارات، لأن عدم معرفة رأس الهرم في المصلحة بوجود الخلل يجعل منه سلبياً في تعامله غير متفاعل مع ما يطرح هنا أو هناك.
يشكو الكثير من المواطنين في عدم سماع المسؤول الفلاني لشكاواهم بحجة أنه مشغول بإنجاز معاملات متراكمة تستدعي قفله باب مكتبه دون هؤلاء المواطنين، وهذا بلا شك مخالفة صريحة للأمر السامي آنف الذكر ويجب محاسبة المقصر والمتهاون في تطبيق نص هذا التعميم السامي الكريم.
لا أجد أي عذر لأي مسؤول في أن يبقى لساعة أو ساعتين في اليوم لاستقبال المواطنين وسماع شكاواهم مباشرة ودون أي وسيط تقني أو غير تقني، ولو كان هذا الوسيط يفي بالغرض لما أرهق الملك المفدى نفسه في استقبال المواطنين، وكذلك ولي عهده والنائب الثاني، ولما صار أول عمل يقوم به حاكم الرياض الأمير سلمان بن عبد العزيز هو استقبال المواطنين والسماع منهم مباشرة ومناقشتهم والأخذ والعطاء معهم بكل وضوح وصراحة، لأن أثر هذه الاستقبالات واضح وجلي ويخفف الكثير من الضغط النفسي لدى المواطن ويشعره بالرضا.
مما يؤسف له أن بعض المسؤولين ما زالوا يشعرون بأن هذه المناصب التي ولوا إياها ما هي إلا تكريم لهم وتقدير لذواتهم، ولذا أحاطوا أنفسهم بهالة من الشكليات التي سخروا لها كل المحيطين بهم.
إن المسؤولية لاشك كبيرة وعظيمة أمام الله أولاً وأمام ولي الأمر ثانياً، وعلى كل مسؤول أن يستشعر هذه المسؤولية ويعي ماذا يعني أن تكون مسؤولاً، ليس فقط أمام الملك أو ولي عهده وإنما أعظم وأجل.. أمام الله سبحانه وتعالى، وأن لا تكون الأبواب موصدة أو الوصول إليك صعباً ومعقداً، أتذكر أنني في يوم من الأيام قمت بزيارة أحد الوزراء في مكتبه وهو يعرفني وأعرفه ولم أصل إليه إلا بعد مرور ما يقارب خمسة موظفين، كل موظف يسألني ماذا تريد من معاليه؟ مما جعلني أقول لآخرهم (خلاص هونت لا أريده)، مما جعله يحاول امتصاص غضبي ونجح في ذلك، هذا نموذج من نماذج لا شك أنها موجودة، ولذا فإن المأمول من جميع المسؤولين أن يعلموا بأن سياسة الباب المفتوح ليست اجتهاداً وإنما صدر فيها أمر سامٍ كريم برقمه وتاريخه.
واليوم وأنا أحاول الانتهاء من هذه المقالة يصدر الملك أوامره المباركة التي شملت مناح عدة من حياة المواطنين المادية والمعنوية والأمنية، والتي جاءت كخطة إستراتيجية وطنية شاملة معززة اللحمة الوطنية بما حملته من بشائر خير كثيرة استهدفت الشباب قبل كل شيء، وشملت كرامة العلماء وتعزيز دور الحسبة والتسهيل على الناس في أمور دينهم من خلال الأمر بفتح فروع لدار الإفتاء، وتوسع كبير في الخدمات الطبية في جميع أنحاء الوطن، ومحاربة الفساد بكافة صوره من خلال هيئة متخصصة تعنى بمحاربة هذا الداء الذي ينخر في جسد الوطن، ونحمد الله أن قيض له هذا الملك ليجتثه من جذوره.
فرحة المواطن بهذه الأوامر لا لكونها جاءت بتحسين وضع الكثير منهم، ولكن لكونها جاءت لتقول للعالم الحاقد والمتربص بنا أن القيادة تشعر بما يؤلم المواطن وتحقق له ما يسعده دون أن يطلب.
فرحة الوطن والمواطن كما كانت فرحة الملك والقيادة قبل ذلك الكل فرح بالآخر وفاءً وصدقاً وعطاءً، شعب وفي لقيادته، وقيادة صادقة مع شعبها، وإن كان ثمة مشكلة تعرقل هذه المسيرة فهي في بعض أشكال الفساد الذي كما أسلفنا جاء عبد الله بن عبد العزيز بهذه الهيئة لاجتثاثه من جذوره - بإذن الله -.
فرح الناس واستبشروا واشرأبت أعناقهم لما هو أجمل وأجمل، وإنه لقريب، هذا ما يقوله دوماً لنا القائد الوالد عبد الله، أو كما تسميه بنيتاي (رند ورهف) بابا عبد الله، في شعور طفولي صادق تجاه هذا الملك الذي ما كان لهما أن ينطقا بهذه العبارة العذبة لولا شعورهما الطفولي الذي لا يكذب تجاه هذا الرجل.
أفرح كثيراً وأنا الأب المستعذب لهذه اللفظة الجميلة (بابا) عندما ينطقانها تجاه والدنا عبد الله بن عبد العزيز، وأشعر بأن بنياتنا في رسوخ - بإذن الله - مادمنا نربي صغارنا على هذه المحبة وهذه المودة التي يشربها أطفالنا مع حليب أمهاتهم، ويتلقونها من تصرفات آبائهم.
أختم مقالة اليوم بالإشارة إلى أنني تعمدت بقاء عنوان هذه المقالة في تأكيد على أن الإصلاح ينطلق من هذه المجالس بدءاً، فلا يمكن أن تتحقق طموحات ولي الأمر في ظل إغلاق المسؤولين أبوابهم وصد المواطنين عن مكاتبهم، وعدم سماع شكاواهم والإسراع في حلها، فكم من قضية دارت وحارت في وزارات كثيرة وفي جلسة مع المسؤول الأعلى في هذه المصلحة.. جلسة شعور بالمسؤولية لا جلسة للاستهلاك الإعلامي انقضى الأمر وأقفلت القضية.
فهل يعي المسؤولون ماذا يعني أن تفتح مجلسك ومكتبك للمواطنين؟
almajd858hotmail.com