الرياض - خاص بـ(الجزيرة)
أكد الدكتور طارق بن محمد الخويطر أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بكلية الملك خالد العسكرية على وجوب الاعتراف بفضل العلماء الربانيين، وعظم منزلتهم ووجوب تقديرهم واحترامهم والاعتراف بفضلهم، محذراً من الآثار التي تترتب على التزهيد والتقليل من مكانة هؤلاء العلماء من فبل بعض الدعاة وطلبة العلم، وعارضاً في الوقت ذاته عدد من الوسائل التي تؤكد على مرجعية العلماء، وهيبتهم، ومكانتهم في المجتمع المسلم.
جاء ذلك في سياق حديث لفضيلة الدكتور الخويطر عن: (مكانة العلماء ووجوب احترامهم ) حيث استهل فضيلته حديثه قائلاً: لا يخفى على المسلم ما للعلم من فضل، وما للعلماء من مكانة، فهم خلفاء الله في عباده بعد الرسل، قال - عز وجل -: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
قال ابن القيم - رحمه الله - :»استشهد سبحانه بأولي العلم على أجل مشهود عليه وهو توحيده، فقال: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ}، وهذا يدل على فضل العلم وأهله من وجوه: أحدها: استشهادهم دون غيرهم من البشر، والثاني: اقتران شهادتهم بشهادته، والثالث: اقترانها بشهادة ملائكته، والرابع: أن في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم، فإن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول، ومنه الأثر المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم: يَحْمِلُ هذا الْعِلْمَ مِنْ كل خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عنه تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ، وقال محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة رأيت رجلاً قدم رجلاً إلى إسماعيل بن إسحاق القاضي، فادعى عليه دعوى فسأل المدعى عليه فأنكر، فقال للمدعي: ألك بينة؟ قال: نعم، فلان وفلان، قال: أما فلان فمن شهودي، وأما فلان فليس من شهودي، قال: فيعرفه القاضي؟ قال: نعم، قال بماذا؟ قال: أعرفه بكتب الحديث، قال: فكيف تعرفه في كتبه الحديث؟ قال: ما علمت إلا خيرًا، قال: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يَحْمِلُ هذا الْعِلْمَ مِنْ كل خَلَفٍ عُدُولُهُ، فمن عدله رسول الله أولى ممن عدلته أنت، فقال: قم فهاته فقد قبلت شهادته، أما الخامس: أنه وصفهم بكونهم أولي العلم، وهذا يدل على اختصاصهم به، وأنهم أهله وأصحابه ليس بمستعار لهم، والسادس: أنه سبحانه استشهد بنفسه، وهو أجل شاهد، ثم بخيار خلقه، وهم ملائكته، والعلماء من عباده ويكفيهم بهذا فضلاً وشرفًا، والسابع: أنه استشهد بهم على أجل مشهود به وأعظمه وأكبره، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والعظيم القدر إنما يستشهد على الأمر العظيم أكابر الخلق وساداتهم، والثامن: أنه سبحانه جعل شهادتهم حجة على المنكرين، فهم بمنزلة أدلته وآياته وبراهنيه الدالة على توحيده، والتاسع: أنه سبحانه أفرد الفعل المتضمن لهذه الشهادة الصادرة منه ومن ملائكته ومنهم، ولم يعطف شهادتهم بفعل آخر غير شهادته، وهذا يدل على شدة ارتباط شهادتهم بشهادته، فكأنه سبحانه شهد لنفسه بالتوحيد على ألسنتهم وأنطقهم بهذه الشهادة فكان هو الشاهد بها لنفسه إقامة وإنطاقًا وتعليمًا، وهم الشاهدون بها له إقرارا واعترافا وتصديقا وإيمانا، والعاشر: أنه سبحانه جعلهم مؤدين لحقه عند عباده بهذه الشهادة، فإذا أدوها فقد أدوا الحق المشهود به، فثبت الحق المشهود به، فوجب على الخلق الإقرار به، وكان ذلك غاية سعادتهم في معاشهم ومعادهم، وكل من ناله الهدى بشهادتهم وأقر بهذا الحق بسبب شهادتهم، فلهم من الأجر مثل أجره، وهذا فضل عظيم لا يدرى قدره إلا الله وكذلك كل من شهد بها عن شهادتهم، فلهم من الأجر مثل أجره أيضا، فهذه عشرة أوجه في هذه الآية».
وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة يُعرف به فضل العلم وأهله، وشموخ أهله ورفعة طلابه، من ذلك قول الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}، قال ابن كثير - رحمه الله -: «أي: وما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه».
وأما من السنة فأحاديث كثيرة: منها: حديث معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدْ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ»، فلما أراد الله بهم خيرًا فقههم في دينه وعلمهم الكتاب والحكمة، وصاروا سراجًا للعباد ومنارًا للعباد.
ومن الأحاديث في فضل العلم حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فيه عِلْمًا سَهَّلَ الله له بِهِ طَرِيقًا إلى الْجَنَّةِ»، وحديث أبي أمامة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «فَضْلُ الْعَالِمِ على الْعَابِدِ كَفَضْلِي على أَدْنَاكُمْ» ثُمَّ قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السماوات وَالْأَرَضِينَ حتى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ على مُعَلِّمِ الناس الْخَيْرَ»، وما رواه أبو الدراء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رضىً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».
واسترسل الدكتور الخويطر قائلاً: والأحاديث في ذلك كثيرة، وكلها تدل على فضل العلماء وعظم منزلتهم ووجوب تقديرهم واحترامهم والاعتراف بفضلهم، قال الفضيل: «العلماء ربيع الناس إذا رآهم المريض لا يشتهي أن يكون صحيحًا، وإذا رآهم الفقير لا يشتهي أن يكون غنيًا».. وقد نص العلماء على وجوب احترام العلماء وتبجيلهم، ومعرفة فضلهم، بل ذكر بعضهم ذلك ضمن عقيدة أهل السنة والجماعة، فقال الطحاوي: «وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل».
قال الشارح ابن أبي العز - رحمه الله - :»قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا}، فيجب على كل مسلم بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين، كما نطق به القرآن خصوصا الذين هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم علماؤها شرارها إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول من أمته والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا وكلهم متفقون اتفاقا يقينا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم».
أخطاء بعض الدعاة
ونبه فضيلته إلى ما حصل في الآونة الأخيرة من الأخطاء لدى بعض الدعاة وطلبة العلم - هداهم الله - التزهيد بالأخذ عن هؤلاء العلماء، وعدم إرجاع الناس إلى علمهم وفتاواهم، فصار هؤلاء العوام يقبلون على هؤلاء الدعاة ينهلون منهم الفتاوى مع أنهم ليسوا مرجعًا في الفتوى، وإنما مرجع الفتوى هم العلماء الربانيون الذين أمضوا حياتهم في العلم والتعلم عشرات السنين حتى صاروا بفضل الله ومنته مرجعًا موثوقًا للناس لا يصدر منهم إلا الفتاوى الموافقة لكتاب الله جل وعلا، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأقوال السلف الصالح حتى وإن تكررت منهم الفتوى مرات في أعوام مختلفة فلا تجد في هذه الفتوى اختلافًا؛ لأن الفتاوى عندهم صادرة من قواعد شرعية ثابتة معتمدة على الكتاب والسنة.
وواصل القول: لقد حصل من جراء هذا الخطأ - وهو: اعتماد بعض العلماء على هؤلاء الدعاة واعتمادهم على قلة من طلبة العلم - حصل ضرر عظيم إذ زهد الناس في الأخذ من العلماء الربانيين وحصل عند بعض هؤلاء العوام أيضًا نفرة من هؤلاء العلماء، واتهامهم بالتقصير وأحيانًا بالمداهنة وعدم القيام بالإنكار على المخالف والتقصير في حقوق طلبة العلم والعلوم، وحصل أيضًا عزوف عن حضور دروس هؤلاء العلماء باعتبارهم - كما يقال - يفهمون، أو لا يتكلمون بالفقه الواعي، وأن فقه الواعي هو الذي يتكلم به هؤلاء الدعاة الصاعدون في الساحات، والذي جُل كلامهم يكون في أمور لا تنفع أو لا تفيد العوام كثير في أمور دينهم.
وبعد أن شدد فضيلته على مخاطر توجه العوام لصغار طلبة العلم وبعض الدعاة وعزوفهم عن العلماء الربانيين، استعرض عدداً من الوسائل التي - بإذن الله - ترجع هيبة العلماء، وترجع الثقة لدى العوام والناس في علمائهم الذين يأخذون منهم الفتاوى:
فأولها: معرفة فضل هؤلاء العلماء إذ أمضوا في طلب العلم والتعليم سنين طويلة، بعضهم أمضى خمسين سنة، وبعضهم ستين سنة، وبعضهم أكثر من ذلك، تجدهم يجلسون في المساجد بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر وبعد صلاة العشاء كل ذلك للتعليم والعطاء والبذل، وهذا ما يكون إلا ممن صلحت نيتهم، إذ عملهم هذا كله كان خالصًا لله - جل وعلا - لا يأخذون عليه أجرًا في الدنيا، ورغم ما يمر بهم من ظروف وصوارف وأمراض وأوجاع وآلام إلا أن دروسهم قائمة لا يعتذرون منها، حتى وإن قل عدد الحضور.
فمثل هؤلاء الذين أمضوا هذه السنين الطوال في هذا التعليم هم أجدر من غيرهم في أن يؤخذ منهم العلم الشرعي، ويكونوا مرجعًا لفتوى الناس والإجابة عن إشكالاتهم.
قال ابن رجب - رحمه الله -: «فاقتضت حكمة الله سبحانه أن ضبط الدين وحفظه بأن نصب للناس أئمة مجتمعا على علمهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية المقصودة في مرتبة العلم بالأحكام والفتوى من أهل الرأي والحديث، فصار الناس كلهم يعولون في الفتاوى عليهم، ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم...» إلى أن قال: « ولولا ذلك لرأى الناس العجاب مِن كل أحمق متكلف معجبٍ برأيه جريء على الناس وثَّاب، فيدعي هذا أنه إمام الأئمة، ويدعي هذا أنه هادي الأمة، وأنه هو الذي ينبغي الرجوع دون الناس إليه، والتعويل دون الخلق عليه».
ثانيًا: أن يذكر الإنسان خطورة فقد هؤلاء العلماء، وذلك بموتهم، فقد جاء في الأحاديث الصحيحة أن من أشراط الساعة فقد العلماء، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا»، ولابد لهم أن يعلموا أن العلم يتنقص بموت العلماء، وبذلك جاء الحديث الصحيح: فعند عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:»إِنَّ الله لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ من النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إذا لم يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسَا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا».
قال النووي - رحمه الله -: «هذا الحديث يبين أن المراد بقبض العلم في الأحاديث السابقة المطلقة ليس هو محوه من صدور حفاظه، ولكن معناه أنه يموت حملته ويتخذ الناس جهالا، يحكمون بجهالاتهم فيضلون ويضلون».
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ من العلم قبل أن يُرفع وذلك فيما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه قال: كنا مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إلى السَّمَاءِ، ثُمَّ قال: «هذا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ من الناس حتى لَا يَقْدِرُوا منه على شَيْءٍ»، فقال زِيَادُ بن لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ: كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وقد قَرَأْنَا الْقُرْآنَ، فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فقال: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا زِيَادُ إن كنت لَأَعُدُّكَ من فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، هذه التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ؟!».
وهذه الأحاديث وغيرهم تبين خطورة فقد العلماء قبل أن ينل الناس من علمهم، وبقاء هذه كتب العلماء لا تغني عن وجود هؤلاء العلماء؛ ولذا قال ابن حجر - رحمه الله -: «وفي حديث أبي أمامة من الفائدة الزائدة أن بقاء الكتب بعد رفع العلم بموت العلماء لا يغني من ليس بعالم شيئًا».
فالمسلم العاقل يعلم أن ذهاب هؤلاء العلماء خطر عظيم على الأمة، وبقاؤهم خير كثير، وإذا علم العاقل ذلك بادر بالأخذ من العلماء والاستفادة منهم قبل أن يرحلوا عن هذه الدنيا الفانية.
والعجب ممن اتبعت قلوبهم بالغضب وقد سلم منهم أعداء الله ورسوله ولم يسلم منهم إخوانهم المؤمنون فصوبوا سهامهم نحو العلماء العابدين المخلصين، خلت مجالس هؤلاء المساكين من كل خير وملئت بالانتقاص من أهل العلم والدين، غير سائلين ولا مستوحشين أن يجتمع في مجالسهم الموبوءة كبائر الذنوب من الكذب والغيبة والنميمة وغيرها، فبارك صنيعهم العدو الأثيم يسبقه الشيطان الرجيم، فأنى لمثل هؤلاء الفلاح والنجاح!!.
وما علم الواحد من هؤلاء المساكين أن للعلماء منزلة عظيمة، من رام ظلمهم ظلم نفسه وغرها، ومهما عابلهم قليل دين وعقل فعيبه به لاحق، وبعرضه لاصق، وإليه عائد، وعليه وارد، وأين هؤلاء من كلام الصحابة والتابعين وتابعيهم في البحث على العلم ومحبة العلماء والتحذير من معاداتهم، قال حماد بن حميد عن الحسن: أن أبا الدرداء قال: «كن عالمًا، أو متعلمًا، أو محبًا، أو متبعًا، ولا تكن الخامس فتهلك»، قال الحسن: هو المبتدع.
وقال ابن المبارك: «من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته».
وليت من سولت لهم أنفسهم انتقاص العلماء ليتهم حفظوا كلمة عمر بن عبدالعزيز -رضي الله عنه- الخليفة العادل حين قال: «إن استطعت فكن عالمًا فإن لم تستطع فكن متعلمًا وإن لم تستطع فأحبهم وإن لم تستطع فلا تبغضهم».
قال ابن عساكر - رحمه الله -: «وأعلم يا أخي - وفقنا الله وإياك لمرضاته ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته - أن لحوم العلماء - رحمة الله عليهم - مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاق على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم والاقتداء بما مدح الله به قول المتبعين من الاستغفار لمن سبقهم وصف كريم».
فإذا سمع المسلم العاقل هذه النصوص التي تدل على فضل العلماء وعظم ذنب منتقصهم ومتهم بالكذب والتزوير كان لازامًا عليه أن يرجع إلى الطريق الصحيح وهو احترامهم وتقديرهم وإرجاع الفتوى إليهم وإعطائهم حقهم في المجتمع الإسلامي، وإنشاد العوام والناس جميعًا إلى الأخذ منهم والاعتراف بفضلهم وتقديرهم، وعلى ذلك جرى أئمة الدعوة، فقد حذروا الناس من انتقاصهم.
قال الشيخ محمد بن عبداللطيف والشيخ سعد بن محمد بن عتيق والشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقيري والشيخ عمر بن محمد بن سليم والشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف - رحمهم الله جميعًا -: «مما ينبغي التنبيه عليه ما وقع من كثير من الجهلة من اتهام أهل العلم والدين بالمداهنة والتقصير وترك القيام بما وجب عليهم من أمر الله سبحانه وكتمان ما يعلمون من الحق والسكوت عن بيانه ولم يدرِ هؤلاء الجهلة أن اغتياب أهل العلم والدين والتفكه بأعراض المؤمنين سم قاتل وداء دفين وإثم واضح مبين قال تعالى: {وَالَّذِين يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}.
أقلوا عليهم من اللوم لا أبا لكم
أو سدوا المكان الذي سدوا
وقال الشيخ محمد بن عبداللطيف والشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقيري - رحمهما الله -: «ومما أدخل الشيطان على بعض المتدينين اتهام علماء المسلمين بالمداهنة، وسوء الظن بهم وعدم الأخذ عنهم، وهذا سبب لحرمان العلم النافع، والعلماء هم ورثة الأنبياء في كل زمان ومكان، فلا يتلقى العلم إلا عنهم، فمن زهد في الأخذ عنهم ولم يقبل ما نقلوه فقد زهد في ميراث سيد المرسلين، واعتاض عنه بأقوال الجهلة الخابطين الذين لا دراية لهم بأحكام الشريعة، والعلماء هم الأمناء على دين الله فواجب على كل مكلف أحذ الدين عن أهله كما قال بغض السلف: إِنَّ هذا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ. فأما من تعلق بظواهر ألفاظ من كلام العلماء المحققين ولم يعرضها على العلماء بل يعتمد على فهمه وربما قال حجتنا مجموعة التوحيد أو كلام العلم الفلاني وهو لا يعرف مقصوده بذلك الكلام، فإن هذا جهل وضلال».
وقال الشيخ سعد بن عتيق - رحمه الله - في نصيحته التي وجهها لبعض البلاد: «وقد بلغني عن هذا الجنس الوقوع في أهل العلم، والدين وإساءة الظن بهم ونسبتهم إلى ترك ما أوجب الله عليهم من الدعوة إلى الله والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم، هذا من جهلهم وعدم مبالاتهم بما يقعون فيه من الغيبة لأهل العلم وثلبهم إياهم وذمهم وانتقاصهم ومن وقع في أهل العلم بالعيب والثلب ابتلاه الله بموت القلب».
مواقف مشرفة
ومضى د. الخويطر قائلاً: ومن الوسائل النافعة لمعرفة حق العلماء ومنزلتهم في المجتمع: أن يعلم المسلم أن الأمة حملت العلماء ثقلا يؤدوهم، وجسمتهم أمرًا يكدهم، وكلفتهم شيئا ينوء بهم، فإذا ذهبوا فمن يحمل هذا العلم ومن يطيق هذا الثقل؟.. ولابد أن يعلم المسلم أن للعلماء الصادقين مواقف مشرفة، وبطولات عظيمة على مدى التاريخ سطرتها كتب السير والمفاخر وحفظها كل مسلم يعتز بدينه وعلماءه، فمع أمل الأمة ويقينها تأتي أنفس العلماء الصادقة المشمخرة سلاحها الإيمان بالله، وعتادها الإخلاص والصدق والعلم، وغايتها العزة في الدارين، وكلمة سرها: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، لا تريد مالاً ولا جاهًا ولا تلقي لأوساخ الدنيا بالا، همها عز الأمة ونجاتها فيكشف الله بهم هفوات المحن، وأزمات الزمن، فيزول الخوف والوجل، ويعود البال في رخاء، والأمر في غاية الاستواء.
وخلص الدكتور طارق الخويطر إلى القول: إن الكلام على فضل العلماء وحقهم على الأمة كلام طويل ولكن مختصره أن على المسلم وبخاصة الدعاة وطلبة العلم أن يبينوا للناس فضل العلماء وعلو منزلتهم وقدرهم وفضلهم وأن يرجعوا هيبة العلماء عند الناس ويرشدوا الناس إلى أخذ فتواهم والإجابة عن إشكالاتهم من هؤلاء العلماء الصادقين الربانيين حتى يعود الخير للأمة، ويكون للعلماء الدور الكبير الذي يظهر عندما تعطيهم الأمة حقهم من الاحترام والتبجيل.