الإسلام في أيامنا هذه أحوج ما يكون إلى من يحسن عرضه على الناس والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وجوهر ذلك الاعتدال والوسطية في الخطاب، والحرص على كسب العقول والقلوب، وذلك لا يتأتى إلا بالعلم وبالعلماء وبالمثقفين والمفكرين، وبالابتعاد عن الجهلة وأدعياء العلم والمتطرفين المتشددين الذين يتبنون الآراء المسبقة؛ لإرغام الناس على الأخذ بها، والذين لا يرون من الألوان إلا لونين فقط إما أبيض وإما أسود، ولا يعترفون بأن هناك ألوانًا أخرى، فالغالي المتطرف: هو الذي لا يؤمنُ إلاَّ بنفسه، ولا يرى إلا أمراً واحداً من أمرين، إما أن يعيش فوق رؤوس الناس وإما أن يُدفن، ولا يرى أن هناك أمرًا ثالثًا بإمكانه أن يختاره، وهو أن يعيش مساويًا للناس له ما لهم وعليه ما عليهم، وللأسف هذا شأنُ كلِّ متطرفٍ في الدين أو السياسة، أو في أي موقفٍ آخر من مواقف الحياة.
وإذا أرادت المواقع الدعوية أن تُرسِّخَ مفهوم الوسطية بين الناس أن تعيَ مثل هذه الأمور جيداً، وأن تقف وراء كلِّ المحاولات التي يبذلها المتطرفون الذين لا يرون العالم إلا من خلال مناظيرهم الضيقة؛ لإقصاء من يخالفهم الرأي أو الفهم، ولو كان على ملتهم ودينهم، وحجتهم في ذلك نصوص مبتورة عزلوها عما سبقها ولحقها، وتمرَّسوا وراءها فلم يعرفوا لها علة ولا مناسبة، أو أقوال لمن سبقهم يتعصبون لها دون إدراك لملابساتها، أو الظروف الموضوعية التي قيلت فيها، وإنما هو تعصبٌ وتقليدٌ واتِّباعٌ أعمى.
إنني أطالب المواقع الدعوية -أولاً- وبلا استثناء إلى المعالجة الجادة لموضوع التطرف بكافة أنواعه، فالحاجة إلى معالجة هذا الأمر عند المسلمين أوجب, وإلحاحها أشد؛ ذلك لما عرَضَ المسلمين له من ويلات، ولما تعرضوا بسببه من جنايات على كتاب ربهم، وعلى سنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، بل وعلى شخص نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم.
ولقد أتاح المتطرفون الفرصة للغرب استغلالَ ظاهرة التطرف الإسلامي؛ لكي يطلقَ تعبيرات ومصطلحات مختلفة تجاه المسلمين ودينهم، وهذه التعبيرات هي جزء من محاولة إلصاق تهم التطرف والإرهاب والأصولية؛ لتشويه صورة الإسلام والمسلمين في نظر العالم الغربي، لاسيما مصطلح الأصولية الذي شاع بشكل كبير في الوقت الحاضر بدلالته الغربية، فأُخذ الكثرة بخطأ القلة، وعُمم شطط المشتط على إحسان المعتدل البريء، والإسلام إنما جاء لسعادة البشرية وليس لشقائها وجاء ليبني لا ليهدم, وجاء ليجمع لا ليفرق.
ومن الأمور المهمة التي يجب على المواقع الدعوية إبرازها لترسيخ مفهوم الوسطية: عدم الخوف من ثقافات الآخرين، فثقافتنا الإسلامية ثقافة قوية ومتينة، واثقة من نفسها، لم تخشَ التلاقح مع الثقافات الفارسية واليونانية والهندية، وغيرها من الثقافات السائدة في القرن التاسع الميلادي، وقبل هذا التاريخ، والتعارف والتعاون بين الشعوب سمة أساسية من سمات الإسلام الحنيف، وليس أدل على هذا من بلاغة القرآن الكريم، فلو نظرنا في سورة الحجرات، لوجدنا أن المولى تبارك وتعالى يقول: {يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَّأُنْثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْبًا وَّقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا}، فالالتقاء بين الأمم والشعوب؛ لمزيد من التفاعل والتواصل الحضاري.
كذلك من الأمور المهمة الواجب على المواقع الدعوية إبرازَها: أنَّ من وسطية هذا الدين عدم إكراه الناس على الدخول فيه، قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} يقول السِّعدي في تفسيره: «هذا بيان لكمال هذا الدين الإسلامي، وأنه لكمال براهينه، واتضاح آياته، وكونه هو دين العقل والعلم، ودين الفطرة والحكمة، ودين الصلاح والإصلاح، ودين الحق والرشد، فلكماله وقبول الفطرة له، لا يحتاج إلى الإكراه عليه؛ لأنَّ الإكراه إنما يقع على ما تنفر عنه القلوب، ويتنافى مع الحقيقة والحق، أو لِمَا تخفى براهينه وآياته».
كذلك على المواقع الدعوية أن تشتغلَ بالمهمات من الأمور، فتوسِّع دائرة عملها إلى العدالة الاجتماعية، والتي هي جزءٌ من الدين، فعليها أن تساعد في حل المشكلات التي تواجه المجتمع من داخله وتؤثر على توجهات الشباب وانحرافهم، ومن أهمها: التخلف، البطالة، الجهل، الفقر، أمية الكلمة والرقم والحاسوب، غياب القدوة الحسنة، فوضى اضطراب ساحة الإفتاء، تغوّل التطرف، الانهزام الداخلي المؤدي للانحراف، فهذه الأمور وأمثالها مما ينافي الوسطية والاعتدال.
ومن الأمور المهمة -أيضاً- بيان أنَّ اليسر والسماحة من خصائص الشريعة الإسلامية؛ لأن الله تعالى أراد للشريعة الإسلامية أن تكون شريعة عامة للناس كافة في جميع أنحاء المعمورة، فاقتضى ذلك أن يجعل الله فيها من اليسر والسماحة والتخفيف ما يلائم اختلاف الناس وطبائعهم، في مختلف الأزمان، وتباين البقاع، حتى يكون تنفيذها بين الأمة سهلاً ميسوراً، ولا يتأتى ذلك إلا إذا انتفى عنها التشديد والإعنات عن عائشة قالت: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- َ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اختَارَ أَيْسَرَهُمَا», قال ابن عبدالبر:»في هذا الحديث دليل على أن المرء ينبغي له ترك ما عسُرَ عليه من أمور الدنيا والآخرة، وترك الإلحاح فيه إذا لم يضطر إليه، والميل إلى اليسر أبداً؛ فإن اليسر في الأمور كلها أحب إلى الله ورسوله».
ولأنها شريعة الفطرة، وفي فطرة الإنسان حب اليسر والرفق والسماحة، والنفور من الشدة والإعنات؛ فإن طبيعة البشر العادية تنفر من التشديد ولا تحتمله.
ولأن هذه الأمة أمة وسط في جميع المجالات؛ لأن السماحة في الشريعة تعني سهولة التكليف والمعاملة في اعتدال، فهي وسط بين التضييق والتساهل، وهذا راجع إلى معنى الاعتدال والعدل والتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}،كما وُصفَ بذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}، قال ابن كثير: «أي أنه جاء بالتيسير والسماحة، وقد كانت الأمم التي قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم، فوسع الله على هذه الأمة أمورها وسهَّلَها لهم».
كذلك على المواقع الدعوية التعاون مع العلماء في إبراز فقه التيسير في الشريعة الذي كان عليه السلف، يقول عمر بن إسحاق: «لَمَنْ أدركت من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر لمن سبقني منهم؛ فما رأيت قوماً أيسر سيرة ولا أقل تشدّداً منهم»، وقال سفيان بن عيينة: « الفقه رخصةٌ من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كلُّ أحد»، وقد قال أحد العلماء: «إذا قلَّ علمُ الرجل كثُرَ احتياطُه».
وللأسف حين يفهم البعض أن ما يُروى عن بعضِ العلَماءِ من كرَاهةِ تتبُّعِ الرُّخص أنهم يقصدون التيسير على الناس في الفتوىِ، وليس كذلك؛ بل قصد كثير من العلماء: ذمَّ الرُّخصُ الَّتِي تستحلُّ ما حرَّم الله ورسولُه.
أما الرخص المبنيَّة على الدليل الشرعي بقول أحد العلماء المجتهدين ظنَّاً منه أنه القول الصواب فلا يعدُّ ذلك من تتبع الرخص، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يحبُّ أن تؤتى رخصُه» أخرجه أحمد وغيره وسنده صحيح كما قال الألباني.
وقد سئل الشيخ محمد بن عثيمين عن الأخذ من المفتي إذا تساوى عنده المفتيان في العلم والدين؟، فقال:»قال بعض العلماء: يتبع الأحوط وهو الأشد، وقيل يتبع الأيسر، وهذا هو الصحيح؛ أنه إذا تعادلت الفتيا عندك، فإنك تتبع الأيسر؛ لأن دين الله -عز وجل- مبنيٌّ على اليسر والسهولة، لا على الشدة والحرج».
وبعض الناس ينسب للإمام أحمد أنه قال: «من تتبَّع الرخص فقد تزندق»، وهذا ليس بصحيح، بل الصحيح أن الإمام أحمد سئل عمن أحلَّ النبيذ المسكر على مذهب، وأحلَّ المتعة على مذهب، فقال: «من تتبع الرخص فسق»، قال الشيخ محمد بن عثيمين في لقاء الباب المفتوح: «فالبعض يبالغ ويقول: من تتبع الرخص تزندق».
* محاضر في جامعة القصيم