يقشعر بدني، أرتعد وأخاف كلما تذكرت مقولة فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه وأرضاه -، وأسقطتها على مدى براءة ذمة كل من تحمل مسؤولية أياً كان مستواها، ومدى ما حققه من إنجازات ونجاحات في مجال عمله، إنها المقولة العظيمة في مبناها وفي معناها، يقول سيدنا عمر - رضي الله عنه -: «والله لو عثرت بغلة في العراق لخفت أن يسألني الله عنها لِمَ لم تُصلح لها الطريق يا عمر». إنها مقولة تجسد قمة تحمل المسؤولية، قمة استشعار الخوف من الله، قمة الخوف من تبعات المناصب، إنها الرؤية التي تعكس مدى استشعاره لعظم المسؤولية وشموليتها، إنها المقولة التي تدل على وجوب كمال الجهد الذي يبذل ويسخر لخدمة ليس الإنسان فقط بل وحتى الحيوان، حقاً إنه العبقري الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم أرَ عبقرياً يفري فريه»، إنه عمر بن الخطاب، لله درك يا فاروق هذه الأمة، إنك بهذه المقولة ترسم معالم الطريق لكل مسؤول، وتحدد أوجه العمل وتمامه، وتعترف بمسؤوليتك عن حفرة في طريق أفضت إلى تعثر بغلة، نعم بغلة وليس إنساناً؛ لأنه لا يتصور ولا يقبل أن يكون سبباً في تعثر إنسان؛ فالإنسان الذي أكرمه الله واستخلفه جدير بكل حفاوة واهتمام ورعاية، إنه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه وأرضاه - الذي يعرف عظم تحمُّل المسؤولية وتبعاتها، وما يترتب عليها من جزاء وحساب عند الله، يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا جاه ولا منصب ولا متاع.
هل تسنم القيادة والتربع على كرسيها أياً كان مجالها ومكانتها يعد تكليفاً أم تشريفاً؟ إن المقارنة الفاحصة لفلسفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في القيادة، التي عبّر عنها بمقولته البليغة الرائعة، تُجسّد من رؤية شاملة لتحمل المسؤولية عن كل شأن من شؤون الحياة المجتمعية، وأنها جميعها أمانة في رقبة المسؤول. إن المتفحص لمقولة عمر، والقارئ لفلسفة المسؤولية في كل بلاد الدنيا بصفة عامة، يدرك أن الرؤية في هذا العصر مختلفة، ويلمس الفرق الشاسع جداً بينهما، بل الانفصام والانفصال التام بين رؤية عمر للمسؤولية وفلسفة المسؤولية في هذا العصر تجاه تحمل أعباء المهمات المجتمعية وإنجازها، عمر يعدها تكليفاً، وعقل المسؤول عامة، والعربي خاصة، حتى المسؤول في المستويات الوظيفية الأقل دائرة يعدها تشريفاً، وبمقتضى التشريف لا بد أن تتوج الجهود بالمآثر والتسهيلات والاستئثار بالمزيد من الحقوق والممتلكات.
يتبيّن للملاحظ دون عناء أن عقلية الإنسان العربي ونفسيته شهدتا تحولات جذرية وعميقة في إدراك مفهوم المسؤولية المجتمعية ومتطلباتها، ومعانيها السامية العظيمة، المسؤولية التي أبت الجبال أن تتحملها؛ لأنها تعرف سلفاً أنها لن تستطع أن تتحمل ثقل أعبائها، رغم قدرتها الظاهرة على التحمل، مقارنة بقدرة الإنسان الضعيف الذي لا يقوى على تحمل الأعباء والصبر عليها.
من دلائل تحول العقل العربي وتغير سماته النفسية حالة الانتشاء والزهو التي تستحوذ عليه حال توليه منصباً، أو تسنمه زعامة؛ لأنه ينظر للمسؤولية باعتبارها مصدراً لإظهار الذات وإشهارها، دون اعتبار للواجبات وللتبعات التي تترتب على تحمل هذه المسؤولية، ومن هنا جاء الخلل والتفريط في الوفاء بمتطلبات المسؤولية؛ لأن الانشغال بحقوق الذات طغى على الانشغال بحقوق العامة، وشهوة التملك والاستئثار أعمت البصائر عن رؤية الحقائق، فلم تعد العقول تدرك، ولا الأعين ترى، ولا الوجدانات تتحرك، الكل أصيب بحَوَل فلم يعد يرى البصائر رغم وضوحها، لا يحس ولا يشعر، بسبب الران الجاثم على القلوب، ران الركون إلى الدنيا، والغفلة عن المصائر الحتمية التي تنتظر كل من يفرط في الحقوق ويضيعها.
ومن دلائل إفلاس شهوة الركون إلى النهم بمكتسبات الدنيا ومباهجها وأنها لا تساوي ألم لحظة، تلك الحسرة والصدمة اللتان يصاب بهما المنشغل بذاته عن الانشغال بمصالح الناس بعد انحسار بريق الأضواء عنه؛ حيث يتبيّن له أن تسخير الإمكانات والسلطة لتلبية حاجات الذات لم يُجدِ نفعاً، وأنه سراب سرعان ما يتكشف عن حقيقة مُرّة تمحو مرارتها كل الملذات والمبهجات السابقة مهما كانت درجة لذتها وإبهاجها، إنها الدنيا لا يغتر أبداً بطيب العيش فيها إنسان عاقل، العاقل يدرك أن الدنيا مزرعة، وبقدر ما يحسن الزراعة فيها ما يحصد الخير والفوز والنجاح في الدنيا والآخرة.