خارج النافذة تحتدم عاصفة رملية ننتظرها منذ ساعات.. وتناقلت محطات الرصد أخبارها وأنذرتنا بها منذ يومين. ولكن البشر مفطورون على عدم احترام الإنذارات المسبقة!!
مرّ الأربعاء والخميس والجو ربيعي جميل يكذب كل ما حذّرونا منه.
لأول مرة بعد الشتاء قررنا أن نتناول شاي العصر في الحديقة! وتمشينا بالسيارة على كورنيش الخبر واشترينا أشياء لا نحتاجها لمجرّد شعورنا بالهدوء الجميل. ثم عدنا إلى المنزل وفي خلال دقائق هجمت العاصفة!
وصلتنا أخيراً: دخل إلينا غبارها ضيفاً غير مرغوب فيه رغم أنّ كل منافذ البيت مغلقة.
الأهل في الرياض أخبرونا عما فعلته في مرابعهم..
حين أفاقوا صباحاً قرروا الخروج إلى البر بعد صلاة الجمعة ليستمتعوا بالربيع في المخيم. فاجأتهم العاصفة فدخلوا الخيمة وأغلقوها عليهم. الآن وقد انتصف الليل ما زالوا في المخيم ينتظرون أن تهدأ العاصفة ليعودوا إلى المنزل.
حذّرونا لا تعودوا صباحاً فحتى المدارس أعلن إغلاقها غداً.
المفروض حين تأتي إنذارات عواصف الغبار يتخذ الجميع حيطتهم ويحتموا منها مختبئين عن مسارها
قبل سنوات بعيدة قال لي صديق من نجد: البدوي يعرف كيف يحمي نفسه من العواصف الرملية. يتفادى مواجهتها مباشرة.. يذكر نفسه أنّ عواصف الرمل جزء من وجوده.. وأنها مرتبطة بقدوم الربيع وتجدد الحياة. يعلم أنّ كل شيء سيهدأ وستسكن العوافير وربما ينزل المطر بعد العاصفة مباشرة.. وخلال أيام يظهر العشب والخزامى!
تساءلت بيني وبين نفسي وهل هذه الحكمة يعرفها كل العرب أم البدو فقط ؟
ربما أهل السواحل لا يعرفون حكمة الصحارى!
أهل السواحل لا ينتظرون مواسم الخزامى! يزرعون حدائق الورد والمحبة! أو هكذا كنت أظن
لا أشك أنّ العاصفة التي تجادل النخيل في الظهران والدمام تحتدم في البحرين أيضا. وتهز نخيلها وعماراتها بعنف.
وهناك أخرى تحتدم منذ أكثر من شهر..
الأهل هناك الآن بين عاصفتين.. عاصفة سياسية وعاصفة طبيعية حماهم الله من الاثنتين.
أتذكّر عاصفة أخرى هبت على الخليج قبل أحد عشر عاماً.
أتذكّر الزاوية المليئة بالحزن والقهر والصدق التي كان يكتبها الدكتور غازي القصيبي - رحمه الله -.
كان عنوانها: «في عين العاصفة». كان عربياً مبدعاً وشاعراً مليئاً بالهم الخليجي وسياسياً يفهم تداخل العواصف دبلوماسياً يزاوج التعبير بصدق والتعبير بهم والتعبير بمسؤولية.
ويصر أنه يكتب فقط كمواطن عربي. ومثلي يتأمّل في جنون العواصف المحلية حين ينفخ غبارها في العيون والأفئدة موسم المغرضين.
رحمه الله لعله كان أبعد المواطنين العرب رؤية حين كتب «العصفورية»!
أتذكّر أنني كنت وقتها أكتب وقلبي مثله يفيض بالهم الخليجي: يا صانع العواصف المفتعلة تطيرنا في العجة وتعطل العيون بالغبار: أعمانا غبار تخريب الأوطان وتركتنا نواجه خراب الديار ودخان الحرائق كالعميان وتركت الوطن محتدماً بغبار العاصفة.
قال لي الزميل نبيل الحمر رئيس تحرير «الأيام» البحرينية يومها. نحن زعلانون منك ؟ قلت لماذا ؟ قال كيف ترفضين أن ننشر بالتزامن بين الوطنين زاويتك «بيننا كلمة» ؟ قلت لم يصلني طلبكم يا نبيل لعل من استلم الرسالة قرر أن الطيور التي تكسر العواصف أبواب أقفاصها.. قد لا تعود!
نبيل أصبح في ما بعد وزير الإعلام البحريني! أعانه الله. وأنا ما زلت هنا في موسم عاصفة ربيعية أخرى.. أتأمّل ما يفعله الغبار بالأهل والأوطان.!
ادعوا معي الله بسرعة انقشاع الغبار واستعادة الرؤية بأقل الخسائر.. ادعوا بمطر يكسر عين العاصفة.. ويغسل القلوب والأقلام والضمائر.