يختزن الذهن صوراً (نمطية) عن الموظف العام، تَصِمُه بالتقصير في أداء واجبه، بل قد تُسقط عليه كُلَّ أو جُلَّ ما تعانيه إدارة الشأن العام من أوزار في خدمة الناس. وصور نمطية كهذه لا تخلو في الغالب من غلو يُظلَم بسببه الموظف العام، حين يُعزى إليه الكثير من أخطاء الإدارة، وكأنه وحده صانعها!
لن أتسنم منصة الدفاع عن الموظف العام دفاعاً مطلقاً، أو أحاول إخلاء ساحته من أي وزر؛ فهو لا ريب شريك في (سراء) الإدارة (وضرائها)، ولكن بنِسَب تتباين بين موقف وآخر؛ فهو جزء من (منظومة) الخطأ في الأداء مثلما أنه جزء من (معادلة) الصواب بها. لكن أن يُحمل وزر الخطأ كاملاً دون سواه ففي ذلك من الوزر ما هو أدهى وأمر من الخطأ نفسه!
ورغم ذلك، دعونا، لغرض الفَهْم فحسب، نطرح السؤال العالق في الأذهان، في معظم الأماكن والأزمان: لماذا يُقصِّر الموظف في أداء ما يوكل إليه من مهام؟ وبمعنى أكثر دقة: هل تقصير الموظف ناجم عن ظروف وحيثيات من صنعه هو لا تتجاوزه إلى سواه، سبباً أو نتيجة؟
أم أن هذا التقصير ليس في بعض أصوله وفروعه سوى (تعبير) مستتر يجسِّد به الموظف المعني معاناته نتيجة إرهاصات معينة في محيطه الأسري أو الإداري، كشعوره مثلاً بالغبن في (توزيع) مهام الوظيفة أو غنائمها أو الاثنتين معاً؟ أو بسبب (حرائق) الأزمات التي قد تشعلها ربة المنزل أو أحد من أبنائه أو بناته لما يرونه تفريطاً منه في إشباع بعض الالتزامات الأسرية، ونحو ذلك؟!
وبمعنى آخر، إنَّ الهجمة على الموظف العام قد لا تكون في بعض مسوغاتها وحيثياتها سوى ظاهرة تحتجب وراءها ملابسات (بانورامية) عديدة، يبدو من خلالها الموظف وكأنه وحده لا سواه المقصود بما يُكتب عنه أو يُقال، حقاً أو باطلاً؛ لذا، يلجأ أحياناً إلى إسقاط (معاناته) على غيره فيعبِّر عن ذلك بأكثر من وسيلة، شعورية ولا شعورية؛ ليؤذي بسلوكه مَنْ لا يستحق الأذى من الناس، تعطيلاً أو تسويفاً أو انحرافاً!
وهناك العديد من المؤشرات ترمز ل(الهجمة المضادة) التي قد يشنها الموظف أحياناً تعبيراً عن عدم الرضا:
فالحضور المتأخر صباحاً أو الانصراف المبكر بعد الظهر عمداً ودون عذر مشروع، مؤشرٌ مهمٌّ، والعبث بالوقت المخصص للعمل بإنفاقه في أغراض لا صلة لها بفروض العمل ونوافله، بدءاً بالزيارات المتكررة لزملاء المكاتب، وما يتخللها من أحاديث لا تنقطع، مروراً بثرثرة الهاتف، وانتهاء بحالات الاسترخاء التي قد تبلغ أحياناً شفا النوم، وذاك مؤشِّر آخر!
من جانب آخر، تشترك بيئة الإدارة نفسها أحياناً في تراجع معايير الأداء لدى الموظف العام، ومن ثَمَّ التقصير! ويُلمس ذلك عبر الآتي:
1 - حجب أو تحجيم أو تسفيه المبادرات الشخصية المفيدة التي قد يطرحها الموظف لمصلحة العمل، والتقيد ب(دوقما) «الروتين» اليومي، وعدم تطوير أساليب الإجراءات أو تذليلها أو إلغائها إذا استدعت المصلحة ذلك، وتلك أمور قد تُحرّض الموظف على التقصير وتدعوه إليه.
2 - غياب العدل في توزيع واجبات العمل وأعبائه وما قد يستصحب من حوافز؛ فهذا موظف مُحمَّل بالأثقال باسم الثقة، يقابله آخر لا عبء له، ولا ثقة به، ورغم ذلك (يستوي) الاثنان ويتساويان في الأجر بل وفي حوافز الثواب أحياناً!!
وبعد، فإنني لا أبرئ أحداً.. ولا أعتذر لأحد، ولا أدافع عن أحد، فالموظف والإدارة شريكان في الأداء وفي السبب.. وفي النتيجة: سلباً أو إيجاباً، ومَنْ كان يرى غير هذا.. فليُدْلِ بدلوه.. فقد تكون له حُجَّة.. غابت عن استيعابي القاصر!