لسنين طويلة ظل المثقف السعودي قليل الفعالية في المشهد الثقافي العربي، لكن منذ سنوات بدأت المشاركة السعودية تتخلل المشهد فيما يبدو أنه نتيجة للحراك في الساحة السعودية مع ارتفاع سقف حرية التعبير تدريجياً وبهدوء منذ عقد من الزمن.
أيضاً فإن الإنترنت خدم المثقف السعودي وساهم في تقديم إنتاجه للعالم العربي، خاصة أن مستخدميه في السعودية هم الأعلى في العالم العربي كنسبة لعدد السكان، وهم أكثر من عشرة ملايين مستخدم. وتتجاوز السعودية وبفارق كبير كافة الدول العربية ودول الشرق الأوسط الأخرى في أسواق تقنية المعلومات، حيث بلغ الإنفاق بالمملكة حوالي ستة مليارات دولار قبل عامين، ويتوقع أن يزداد إلى نحو عشرة مليارات دولار بعد عامين. هذه الريادة السعودية في استخدام التقنية الإلكترونية في العالم العربي تدل على حيوية مجتمع يستيقظ للنور ويتفاعل مع العالم، وحان للسعوديين أن يجربوا تنويرهم.. فكان حصول الروائي عبده خال على جائزة البوكر العربية العام الماضي مؤشراً على تألق المنتج الثقافي السعودي في الساحة العربية وتفاعله معها. أما حصول الروائية رجاء عالم على تلك الجائزة هذه السنة فهو تكريس لذلك الاستنتاج.
لو عدنا إلى ثمانينات القرن المنصرم لوجدنا أن الشعر كان طاغياً على المنتج الثقافي السعودي، وذلك يشير إلى مقدار ما كان للثقافة الشفهية من حضور في المجتمع. كما أن تلك الفترة، وباستثناء القضايا الأدبية، لم تشهد احتداماً في النقاشات والحوارات الفكرية والاجتماعية ومُنعت بها قضايا من اللمس، ولم يكن سوى الشعر الذي كان له إما أن يتلمس مواربة هذه القضايا أو يهرب منها تماماً كعمل جمالي بحت.
ومع تراكم قضايا عديدة وتضخمها أصيبت القضايا بحساسية مفرطة من اللمس حتى نهاية التسعينات، وفي أوائل العقد الأول من قرننا، بدأ فتح مواضيع ولُمست قضايا أثارت زوابع إعلامية واجتماعية وفقهية وحقوقية، رغم أن بعضها يمكن اعتبارها اعتيادية لا تستحق أدنى إثارة ولا تستدعي أية حساسية كقيادة المرأة للسيارة، وكنقد ممارسة بعض موظفي جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
هذه الحساسية منحت كثيراً من المواضيع طابع الإثارة وساعدت على انتشارها، وكان أقوى وسائل التعبير الكتابية للنقاش هي المقالة الصحفية الجادة، بينما كان الحوار على الفضائيات من أقوى وسائل التعبير الشفوية. أما الرواية السعودية فكانت نجمة المكتبات ودُرَّة معارض الكتاب، وتصدرت قائمة المبيعات، لأنها الوسيلة الأكثر قرباً لسرد القضايا الاجتماعية، فيما تراجع الشعر لأنه لا يستطيع أن يدخل في عالم السرد وتفاصيله الاجتماعية التي تتناولها الرواية. كذلك انساقت كثير من الروايات نحو الاعتماد على الفضائحية وكشف المستور من أجل جمهور لم يعتد على ذلك، فكبَّ الناس على هذه الروايات، وتراجعت الروايات المبدعة إزاء الروايات الحكواتية، لكنه تراجع مؤقت، ما لبث أن استعادت فيه زمام المبادرة!
ولأن الإنتاج الروائي لم يعد يهتم بتفريخ كميات ضخمة من روايات ركيكة تعتمد على الإثارة فقط بمقدار ما صار اهتمامه بالجودة، فقد انخفض عدد الروايات مقابل زيادة الكتب الموضوعية. هذا بدأ منذ نحو سنة ونصف ليصل ذروته في معرض كتاب هذه العام، وصار الكتاب الموضوعي في الصدارة..
وإذا قلنا إن الرواية السعودية المبدعة واجهت اختباراً صعباً على مدى الأعوام السابقة وحققت نجاحاً طيباً، فإن ثمة اختبار أصعب وأهم كثيراً سيواجهه الطرح الموضوعي من كتب اجتماعية وفكرية وتاريخية وسياسية، فخلال عامين ظهرت عشرات الكتب، وصرنا نكتشف بصورة مستمرة أسماء جديدة رائعة ونعيد اكتشاف أسماء سابقة تؤلف كتباً موضوعية جادة. هذا شيء مفرح، إلا أن الامتحان عسير جداً، وأظنه أصعب التحديات التي ستواجه المنتج الثقافي السعودي، فالإنتاج الموضوعي يمثل بداية مرحلة النضج التي تصل إليها الثقافة، فلا يمكن للكتاب الروائي ولا أي جنس أدبي أن يكون في طليعة الحراك مثلما يفعل الكتاب الموضوعي..
عند مرورك على هذه الكتب الجادة الرصينة وأنت تسير في المكتبة ملقياً نظرة عن بعد على العناوين تلاحظ طغيان العناوين المفتوحة بدون ألف لام التعريف المحدِدة، من نوعية: «إشكالات في كذا وكذا.. أو: تحديات، إضاءات، تأملات.. ستُدرك أن المؤلف سيكتب عن الموضوع بطريقة حرة مرسلة يختار من الإشكالات ما يناسبه ويدع ما لا يناسبه، ولن يكون ملزماً تجاه القارئ بأي شيء واضح ومحدد.
وعندما تقرأ تلك الكتب ستجد أنه يغيب عنها أو أنها تفتقر للتالي: الدراسات والأبحاث والإحصاءات، آراء الخبراء والمختصين، آخر المعلومات وآخر طرق التحليل. كما تجد في أغلبها الافتقار للمنهجية أو خطة عامة لوضع إطار للكتاب يربط الأفكار الرئيسية المطروحة في وحدة متماسكة تنظم الأفكار وتعمل على ترتيب عرض الملاحظات والتحليل وطرق اختبار الآراء أو الفرضيات المطروحة، الذي يتكون بناء تراكمي لعرض الأفكار ومناقشتها حتى الوصول للاستنتاج المطلوب..
وبدون هذه المنهجية الهيكلية فإنه يصعب استيعاب وجهة نظر الكتاب ككل، وعندما نستوعبها قد لا نستطيع استحضارها والاستفادة منها لاحقاً لأنها لم توضع في صورة مؤطرة نخرج منها برؤية واضحة ومحددة لمجموع الأفكار المتناثرة، فقد يكون الكتاب مليئاً بالأفكار الرائعة ولكنه بلا إطار منهجي فيغدو كاللآليء المنثورة لا خيط يجمعها في عقد متناسق يوضح جمال أحجامها وبريقها.
وعلى النقيض تجد كتباً قليلة بعناوين محددة مثل: «فتنة القول بتعليم البنات في المملكة» لعبدالله الوشمي، «إصلاح التعليم في المملكة» لأحمد العيسى، « السعودية سيرة دولة ومجتمع» لعبدالعزيز الخضر؛ تتسم بمنهجية واضحة لأنها منذ البداية وضعت لنفسها محددات غير فضفاضة، وأصبحت ملزمة بها، ومن ثم صار الرجوع إلى أفكارها بأي وقت والوصول إلى استنتاجاتها سهل بسبب تلك المنهجية.
بالطبع ليس شرطاً أن تلتزم الكتب بالشروط المنهجية فالأصل أن المؤلف حرٌّ قد يرغب في كسر الشروط لهدف موضوعي أو ذاتي، أو قد لا يناسب الكتاب الضبط المنهجي، أو لأي سبب آخر، لكن أن تمثل هذه الكتب الأغلبية الساحقة، فهنا مكمن الخلل، والمشكلة الأكبر أن لا يعرف المؤلف النمط الذي اختطَّه لنفسه في كتابه! التحدي صعب جداً.. إنه مخاض ستتضح ولادته خلال سنتين أو ثلاث..