شيء ما تغير في قضية العلاقة التاريخية بين الهامش والرسمي عند العرب، فما يحدث في بعض الدول العربية يعد سابقة في تاريخ الإنسانية، فالخطاب الهامشي خرج بشبابه وشيوخه ومفرداته من عالمه الإفتراضي، وظهر في الواقع متسلحاً بخطاب السلام، ولا أعتقد على الإطلاق أن ما يحدث دار في خلد مكتشف عالم الشبكة الإفتراضية، فالسلطة القوية في اليمن أصبحت تستجدي خطاب المتظاهرين السلمي، بعد أن فشلت في إيقافهم بالعنف، وصارت تبحث عن مخرج مشرف ضد انقلاب الوضع في اليمن، ويبدو أن الأمر في سوريا يسير في نفس الطريق إذا لم تنتحر السلطة مبكراً باستخدام آلات القتل ضد مقاومة السلم الجبارة.
المقولة الفلسفية الشهيرة عن علاقة الاستبداد بتكبيل حرية التفكير فقدت صحة تطبيقاتها تماماً في عصر الإنترنت والثورة المعلوماتية، فلم يعد منع الإنسان من حرية توصيل أفكاره بشكل علني، يحرمه من حرية التفكير،. ومن العبث أن نسلم أنه بلا رأي، وهل ثمة مخلوق قادر على التفكير لا رأي له، وتلك إشكالية، ربما لا يرغب صاحب السلطة في أي مؤسسة هرمية مواجهتها..، وقد يسعى الإنسان أحياناً بمشاعره للوصول إلى نوع من التوازن، من خلال معادلة ثقل السوء الذي يرهق كاهله بوزن الكراهية الذي يحملها تجاه جلاده.
لم يعرف العرب ثقافة المقاومة الرمزية، على خلاف ما حدث في الغرب، فقد كان الخطاب المضاد يأخذ أنماط الانقلاب الرمزي في الحكايات الشعبية كإحدى وسائل المواجهة أو مقاومة ثقافة الهامش لسلطة خطاب القوة، فمثلاً في القرن السادس عشر، وخلال عصور الرق في أوروبا، انتشرت الصور والقصص، التي تحكي رمزاً مقاومة الأرقاء لأسيادهم، وتدعو من خلالها إلى انقلاب جميع العلاقات الرسمية، فالفئران في تلك الروايات الشعبية، أصبحت تأكل القطط، والعربة تجر الجياد، والأرنب يخيف الصياد، والثور يذبح الجزار، والفقير يحسن للغني، والسمكة تطير في الهواء.
لكن تلك القصص الرمزية لم يكن لها نصيب في الثقافة العربية، فعلى النقيض، كانت الأساطير الشعبية في مجموعة الجهيمان الرائعة، حافلة «بسوالف» الساحر وأبو سالم، والوحش قاط، والجذع الذي يطير بالساحرتين، وعجوز الجن المتصابية، وسالفة مزنة مع العفريت ذي الرؤوس الستة، فالخوف في الثقافة الشعبية العربية لم يكن مصدره السلطان حسب روايتهم، لكن من أساطير الخرافة كما ظهر في قصصهم الشعبية، وربما كان السبب أنهم لم يكن يجرؤوا على التعبير عن خوفهم منه، فاختزلوا خوفهم في الجن والعفاريت.
كان السلطان في ثقافة العرب الشعبية رمزاً للكرم والقوة والمروءة، وكان الخطاب الفقهي في مجملة يدعو للمصالحة مع السلطان برغم أن التاريخ الإسلامي كان حافلاً بصور شنيعة من الاستبداد، فمحمد ابن الخليفة الأول أبي بكر -رضي الله عنه- قتله معاوية ابن حديج الكندي ووضعه في جلد حمار وحرقه، انتقاماً لمقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان، ولم يجد هشام بن عبدالملك سبيلاً لإيقاف معارضة زيد بن علي إلا بقتله وصلبه أمام الملأ، وكان عبدالله بن عمر بن غيلان عامل البصرة لمعاوية، يخطب على المنبر فحصبه رجل من صبّه، فأمر به فقطع يده، وكان للحجاج سجناً يسمّى الديماس، والديماس الحفيرة في باطن الأرض، وكان من الضيق بحيث لا يجد المسجون فيه إلا موضع مجلسه، وكان كل جماعة من المسجونين يقرنون في سلسلة واحدة، فإذا قاموا، قاموا معاً، إذا قعدوا قعدوا معاً، وفيها يأكلون، وفيها يتغوطون، وفيها يصلون..
الاستبداد إرث عربي قديم، لكن ثقافة العرب الشعبية قديماً خلت من المقاومة السلمية، كما خلت أدبياتهم وأشعارهم منها، وكان السيف يقابله السيف، والدم بالدم، وكان الانتقام سيد الموقف، إلا أن شيئاً ما تغير، وظهر تأثير عالم الهامش الافتراضي، والذي فرض خطاب السلم كوسيلة لمقاومة الخوف الكامن وغير المصرح به، وهم بذلك تجاوزوا ثقافة العنف والإرهاب والقتل، وتبنوا خطاب جديد سمته الابتسامة والأغاني والنكت الشعبية، والتي ظهرت في الثورة المصرية المرشحه لجائزة نوبل في السلم، وأيضاً في ثورة تونس واليمن، وقد أثبتت الأحداث في العصر الحديث أن الشدة لم يعد لها مكان، وأن آلة القتل لا تستطيع إيقاف إرادة الناس، وستكون جائزة الحكمة لأولئك الذين يدركون الدرس جيداً، ويبدأوا رحلة التطوير والتغيير من خلال خطاب السلم المضاد، وقد قال صلى الله عليه وسلم « إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه»، ويأتي مع اللين ما لا يأتي مع الشدة.