الظروف الاستثنائية التي تمرُّ بها مملكة البحرين ومنطقة الخليج من استهداف إيراني مباشر، قد تبدو لغير المتابعين والراصدين لتطور الأحداث، مفاجأة خارج حسابات التوقع، غير أنَّ سيرة الساسة الإيرانيين في التعاطي مع المنطقة ليست وليدة الأحداث الراهنة. فالجمهورية الإيرانية بالرغم من استثمارها الحاذق لحركة الأمواج في المنطقة، لم تكن تألو جهدًا في بعث رسائل متنوعة وفي أكثر من مناسبة، لتأكيد الهدف الإستراتيجي الأكبر لحكومة الملالي، وهو العزم على التغلغل في الخليج العربي وزعزعة استقراره، واختطاف بعض أوراق ملفاته الداخلية لسن سكاكين الطائفية، وتمزيق لحمته من أجل بسط النفوذ والسيطرة.
الإيرانيون ملوك الشطرنج؛ ولذا يثبتون في أكثر من ظرف حسب المحللين قدرتهم على تحريك القطع لتفادي السقوط والانكشاف حين تتحقق الشروط، والمتابع لإعلام الحرس الثوري -وفي مقدمته رأس الحربة «قناة العالم» الإيرانية الناطقة باللغة العربية- يلحظ -ومنذ بدء موجة الثورات في المنطقة- السعي إلى القفز على هذه العربة، ومحاولة الخطاب الإعلامي مصادرتها، وطرحها في سياق الثورة الخمينية، بالرغم من أن الثورة المازؤمة تعاني الويلات في الداخل الإيراني، مع ارتفاع وتيرة معارضتها ووصولها إلى شخص وكيل الله في الأرض -كما يزعمون- «خامنئي»!!
قناة «العالم» المؤدلجة لم تستخدم مصطلح الثورة العربية لتسمية الثورات، التي تشهدها المنطقة لأسباب قومية واضحة، ولا مصطلح الثورة الإسلامية السيئ الذكر، الذي فقد بريقه وانكشف سره؛ لأسباب تكتيكية أكثر وضوحًا، بل استخدمت مصطلحًا جديدًا؛ هو «الصحوة الإسلامية»، باعتباره مصطلحًا مألوفًا ومقبولاً في المحيط العربي والإسلامي، في محاولة انتهازية تسعى لاستدرار ضرع الثورة الخمينية، الذي جفّ ويبس.
ويهدف الملالي من هذه المحاولة إلى تصوير الأوضاع الراهنة في المنطقة، وكأنها استلهام للثورة الخمينية الشعبية، التي أطاحت بالشاه من أجل استرجاع حق الشعب، الذي أصبح في إيران اليوم أكثر جوعًا، وهو يرى ثرواته تبدد خارج الحدود من أجل أوهام وخرافات، لا تطعم الشعوب خبزًا ولا كرامة!
بعيدًا عن حياكة المؤامرات لا بد من قراءة الوضع في سياق المتغيرات على أكثر من مستوى، فالتحليل الموضوعي يؤكد أن الظروف الموضوعية لهذه الثورات والاضطرابات التي تعم المنطقة لا علاقة لها بالسياق الثوري الإيراني، وإنما هي انعكاسٌ لنضج الظروف السياسية والإقليمية؛ للتعبير عن رفض نتائج برامج تنمية الإنسان في المنطقة العربية، وأداء المؤسسات ومستوى العدالة الاجتماعية واحترام القانون، كما حدث في الحالة التونسية والمصرية والليبية واليمنية.
ولذا تستوجب العدالة أن نستثني الحالة البحرينية من هذا السياق، الذي لم يستطع الصمود أمام مده سوى الشرعيات، التي تتكئ على رصيد من الثقة والإصلاح والأمل في العمل على مستقبل أفضل. وعليه فإن الحالة البحرينية تمثل للراصد الدقيق تراكمًا من التخطيط الإيراني، الذي استغل الظروف الإقليمية والمزاج الشعبي للزج بمشروعه في أتون الأحداث، دون أي مراعاة لمصالح البحرينيين ومستقبلهم!
الانتهازية الإيرانية اليوم ينبغي فضحها وتعريتها أمام المجتمعات العربية والخليجية، بجميع طوائفها السنية والشيعية، كما ينبغي العمل بسرعة وجدية لمحاصرة المشروع الإيراني الأممي للتشيع السياسي، الذي يستغل تناقضات الواقع العربي والإسلامي، ولا يمت إلى المنهج العقدي الشيعي الحقيقي بصلة، فالجمهورية الفارسية التي تدعو إلى استقلال القرار الإسلامي والانعتاق من سطوة الاستعمار الغربي، الذي يتدخل في قضايا دول المنطقة الداخلية وملفاتها المحلية، هي ذاتها التي تنشر خلاياها وجواسيسها في دول الجوار لإثارة القلاقل والاضطرابات؛ طمعًا في النفوذ والسيطرة.. ومن شواهد ذلك، ما أوردته صحيفة القبس الكويتية في مطلع شهر مايو 2010م عن تفكيك السلطات الكويتية لشبكة تجسس تعمل لحساب الحرس الثوري الإيراني، عبر جمع معلومات تتعلق بأمن البلاد وتجنيد عدد من العملاء.. وإن كان ما كشفته السلطات الكويتية رأس جبل الجليد، فقد اتضحت في هذه الأزمة بعض المعالم لخيوط تغلغل إيراني، يسعى إلى تعطيل أحد أهم أولويات العمل الخليجي المشترك؛ وهو تطبيق الاتفاقيات الأمنية المشتركة للوقوف مع بلد خليجي عضو في المجلس في ظروف استثنائية، حين برزت بعض الأصوات الشاذة داخل دولة الكويت الشقيقة تعارض إرسال قوات درع الجزيرة لحماية الأصول الحيوية للشعب البحريني، بالرغم من أن الذاكرة الكويتية الأصيلة ما تزال تحتفظ بذكرى تاريخية وموقف سعودي ودعم خليجي بارز إبان احتلال الكويت كان نتيجة لتلك الاتفاقيات.
الجهود الإيرانية الحثيثة في السعي إلى الحضور، والتأثير في المشهد الخليجي بشكل مستتر أو خفي، بات واضحًا وجليًا. فقد أعلن عادل الأسدي القنصل العام الإيراني في دبي في سبتمبر 2008م -الذي انشق قبل تسع سنوات عن النظام الإيراني- أن هناك خلايا عديدة للحرس الثوري الإيراني موجودة في دول الخليج العربي، واليوم يؤكد وزير الخارجية البحريني ذات المعنى، من خلال اتهامه لحزب الله اللبناني بدعم العناصر التخريبية في البحرين، وما لم يتحدث عنه الوزير أخطر وأكبر!
هذه الفسيفساء الآثمة من التشابك التخطيطي والتنفيذي، الذي يستهدف تخريب وتقويض لحمة الأمة العربية والخليجية منها على وجه الخصوص، التي تمثل رأس حربة مقاومة النفوذ الإيراني اليوم، تكشف أن أدوات وسلوكيات هذه الحرب الآثمة تجاوزت كل الأعراف والأخلاق.
المؤسف أن سياسة خلط الأوراق، الذي تنتهجه الحكومة الإيرانية ساعدها على القفز على العربة البحرينية، التي تمثل نموذجًا متقدمًا من نماذج الحراك السياسي الإصلاحي في العالم العربي، لتتمكن من اختطاف شارع «الطائفة» في هذا البلد الآمن، والدعوة إلى قطع التواصل والحوار بين الطائفة من جهة وبقية الشعب والحكومة من جهة أخرى، ووضع صورة جديدة مستهدفة لمستقبل البلاد، تتمثل في إسقاط الحكومة ونظامها السياسي بالكامل، وبناء امتداد جمهوري لملالي إيران على حساب مملكة البحرين العربية بإخوتها الوطنية السنية والشيعية، بل إن المثير للسخرية أن الخطاب الإيراني المتأزم وحواشيه في المنطقة تجاه التدخل الخليجي الشرعي -على أساس الاتفاقيات الثنائية المشتركة- لم يدرك مغبة خطابه العدائي المستفز في التدخل السافر في شؤون دول المجلس، دون أي غطاء كان، بل إن هذا الموقف تجاوز الإيرانيين أنفسهم إلى توجيه زعيم حزب الله، الذي يفترض أن يكون مقاومًا لأعداء الأمة - كما يزعم - بالتدخل في الشأن البحريني، وإعلان دعمه السافر للعناصر التي تريد الانقلاب على الشرعية في البحرين، في حين أن الشارع الإيراني يواجه القمع والتنكيل يوميًا، دون أن تتحرك نخوة المناضل نصر الله حتى لمجرد ذكر ما يحدث!
هذا التورط المباشر لم يترك زعيم الحزب دليل إثباته لأحد، بل صرح علانية، وفي خطاب متلفز، يستفز مشاعر العرب والخليجيين، عن دعمه ودوره في أحداث البحرين.
والحقيقة أن المدرسة الإيرانية في التفكير تراهن على تسجيل الموقف في اللحظة، ومن يستمع إلى حسن نصر الله يدرك أن النسخة العربية من هذه المدرسة تورط كثيرًا الآباء المؤسسين لها في طهران، دون أن تدري!
رفض مبادرة الحوار التي طرحها ولي العهد البحريني من قبل قيادات الفتنة جزءٌ من المخطط الإيراني تجاه البحرين، وهو ليس وليد الأحداث الراهنة، فقد عملت إيران من خلال أتباعها في الداخل على إنضاج هذا الواقع، وتعطيل جميع مبادرات الحكومة البحرينية، وعزل الشباب البحريني من الطائفة الشيعية عن التفاعل مع برامج التنمية داخل المجتمع، وانتهاج سياسة تجذيرالغضب والحقد، وتأجيج الاستياء من الوضع القائم، وغرس ثقافة الكراهية بين الطائفة وعموم المجتمع، ولم يتأت ذلك لولا عمالة قيادات حالت دون تكوين حياة وطنية مستقلة لهؤلاء الشباب، بعيدًا عن النفوذ الإيراني داخل الوطن، لكن هذا الواقع المؤلم ينبغي ألا يعفي دول مجلس التعاون الخليجي عن مسؤوليتها التاريخية تجاه هذه الطائفة، وتجاوز لغة التصعيد الطائفي في المنطقة، الذي يسهم فيه أطراف مأجورون من الطرف الإيراني أو متحمسون من الطرف السنّي، غير آبهين بالبعد الإستراتيجي الخطير لاستفحال هذه اللغة الطائفية، كما لا بد من العمل على تطوير إستراتيجية تنموية خليجية، تستهدف الشباب الخليجي على وجه العموم، ليكون سدًا منيعًا تجاه محاولات الاختراق من أي طرف، وتأسيس وعي شبابي جديد لرؤية مصالح ومصير دول مجلس التعاون الخليجي المشترك لمواجهة تحديات المستقبل.
منطقة الخليج العربي اليوم أمام مرحلة تاريخية حاسمة؛ لصياغة مسار تنموي يستهدف بناء الإنسان ورفاهيته، وإصلاح المؤسسات، والبدء في محاصرة ونزع فتيل الملفات العالقة والمتعثرة في المشروع التنموي الخليجي، ودمجها في حل خليجي شامل، وأحسب أن تدخل درع الجزيرة في البحرين، والمساهمة في عودة الاستقرار إلى هذا البلد الخليجي الآمن، يمثل خطوة مهمة، سبقتها خطوة لا تقل أهمية، وهي ضخ 20 مليار دولار للمشروعات التنموية في عمان والبحرين.
الإيرانيون اليوم مشدوهون بالفشل الذريع، الذي أصاب مخططهم في مملكة البحرين، بعد أن نجحت عناصرهم المرتهنة لأجندتهم الخفية في حرف اتجاه المسار العفوي والشعبي لمطالب المواطن البحريني، خارج حدود المصالح البحرينية، بصمات الأصابع الإيرانية الآثمة حاضرة في الجسد البحريني، الذي يطهر جروحه اليوم منها، لكن -وكما تقول العرب- فإن: « في كل رحم محنة منحة»، فقد كانت الأحداث فرصة تاريخية بالمقابل للخليجيين في إرسال رسالة واضحة لملالي إيران -بالرغم من ندرة الرسائل التي ترسل إليهم من الطرف الخليجي- واختبارًا لإرادة واستعداد منظومة دول مجلس التعاون الخليجي في مواجهة الحلم الإيراني، وإجهاضه بعد أن أوشك على الاستكمال في البحرين. هذا القرار الخليجي التاريخي بلا ريب أعاد ترتيب الأوراق الإقليمية من جديد، وركل الطموحات الإيرانية لتعود أدراجها عن حمى الخليج، بعد أن تكشف لها الواقع بأن الخليجيين لن يسمحوا بخلق واقع إيراني جديد على حين غفلة أو تغافل أو رفض أو رغبة من العملاق الأمريكي.
الجمهورية الإيرانية اليوم، ومن خلال سلوكها العدائي تجاه دول مجلس التعاون، باتت أحد أهم معوقات تحقيق الأمن في المنطقة، بالرغم من أنها تحتج بعدم قبولها بأي ترتيبات أمنية، تضمن الأمن الإقليمي في المنطقة إلى الوجود العسكري الأجنبي فيها، في سلوك يعزز قراءة جميع مواقفها في سياق سياسة خلط الأوراق. فإيران تدرك أكثر من أي طرف أن معضلة البيضة والدجاجة في أزمة الثقة بينها وبين دول المجلس يكمن في سلوكها العدائي التاريخي، الذي تتكشف مع كل يوم خطورة أبعاده، فكيف يمكن لدول الخليج الثقة في دولة تمارس كل تلك الاختراقات، وهي تجهر برغبتها في السلام لفظًا وتخالفها ممارسةً وتطبيقاً، فالذاكرة الخليجية ما تزال حية بما ما حدث في لقاء سابق في عام 2008 بين الرئيس نجاد ووزير الخارجية البحريني، أكَّد الرئيس الإيراني فيه ضرورة حل قضايا المنطقة بين دولها على أساس من الود والصداقة، بعيدًا عن التدخل الأجنبي!.. فكيف يمكن للخليجيين عمومًا، والبحرينيين خصوصًا الثقة بمثل هذا التصريح في اختبار الظروف الحالية!
أخيرًا، لا بد من عدم تجاوز حقيقة مهمة تمر بها منطقة الخليج، وهي الغموض الأمريكي، الذي نتج بعد الحادي عشر من سبتمبر، وما تبعه في مرحلة إعادة صياغة الوعي السياسي الأمريكي بالمنطقة، حيث وجد فيه الإيرانيون فرصة تاريخية لانتهاج سياسة استثمار الأخطاء، وقد جسَّد أحد الباحثين في أحد مراكز البحث الأوروبية هذه العلاقة، بين الخطأ الأمريكي والانتهازية الإيرانية، بالعلاقة بين الشجرة الغبية والإنسان البدائي، حيث تقول الأسطورة: إن الشجرة الغبية تدافع عن ثمارها بشراسة في النهار، وتتخلى عنها في الليل، اعتقادًا منها أن لا أحد يراها؛ ليكتشف أحد الرجال البدائيين ذلك من خلال الرصد والحكمة والصبر فيأخذها دون عناء..
اليوم لا بد لدول الخليج من استيعاب هذا الدرس، فالإيرانيون قناصون ماهرون في استثمار الأخطاء والنفاذ من الثغرات، ولذا فإن التردد والضعف في مواجهة المخطط الفارسي، تحت أي اعتبار داخلي أو خارجي، قد ينتج واقعًا لا تحمد عقباه يعض فيه الخليجيون أصابع الندم حين لات ندم!