لم تصرف أمة في تاريخها مثل ما صرفنا نحن في مجال التعليم العام، ولكننا -وللأسف- نبدو وكأننا في كل مرة مكانك راوح. نصرف مبالغ طائلة على مؤتمرات، وندوات، وورش عمل، وجلسات عصف ذهني، وجلسات هرش دماغي، ولكن دونما طائل.
لم تصرف أمة في تاريخها مثل ما صرفنا نحن في مجال التعليم العام، ولكننا -وللأسف- نبدو وكأننا في كل مرة مكانك راوح. نصرف مبالغ طائلة على مؤتمرات، وندوات، وورش عمل، وجلسات عصف ذهني، وجلسات هرش دماغي، ولكن دونما طائل. مليارات وجهت وجهات مختلفة حول برامج غير مدروسة ولم يتم التساؤل عنها أو حولها فيما بعد حتى يومنا هذا. فوزارة التربية والتعليم ما زالت كالثقب الأسود في الفضاء تبتلع كل ما يُخصص لها، والمحصلة النهائية تخبط في الاتجاهات كافة. والقاعدة هي إن زادت المخصصات فيجب إيجاد طرق لزيادة المصاريف.
سمعنا -مثلاً- الكثير حول تطوير مناهج اللغة الإنجليزية، بعد أن أقام الدنيا وأقعدها مجموعة من المتحمسين لتعليمها مبكراً، وبعضهم من غير المختصين طبعاً، لتنفق أموال طائلة على ذلك، والمحصلة مقررات وكتب الله أعلم بمستواها. وحاولت في مرات أن أساعد أبنائي في منهج اللغة الإنجليزية فارتفع سكري وضغطي معاً من سوء إعداد المناهج، وعندما نظرت للمؤلفين وجدتهم مجموعة من الأساتذة والأستاذات بمستوى البكالوريوس الذين تنقصهم التخصص والخبرة في آن، ولا يعرف أحد آليات اختيارهم. وفي أحد المقررات الثانوية استعرض أحدهم مهاراته في مجال الصوتيات والصويتمات ليدرجها في مقرر السنة الأولى دونما أي اعتبار لمستوى الطلاب أو الفائدة المرجوة من ذلك. ومعروف أن إعداد المناهج الدراسية في مجال تعليم اللغات له تخصص دقيق، ويتصدى له عادة مختصون مؤهلون من حيث الخبرة أيضاً، وليس تأهيل شهادات فقط حصل عليها أصحابها منعاً لإحراج مشرفيهم، أو خوفاً من توقف إرسال البعثات من بلدانهم.
قبل عقد من الزمن طارت بنا الوزارة في عجة اليابان، هات يا مؤتمرات، هات يا انتدابات، وهات يا زيارات، حتى كادت أعيننا من كثرة ذكر اليابان أن تقرأ عمودياً بدلاً من أفقياً، والمحصلة ما هي، لا صرنا يابانيين ولا طبقنا أي أمر من أمور التعليم في اليابان لأن اليابان تختلف عنا، بل ربما أن اليابانيين الذين زارونا هنا لاحظوا بعض الأخطاء لدينا، وهم من تعلم منا، تماماً مثل الذي أرسله ذووه ليتعلم اللغة الإنجليزية، فتعلمت العائلة التي سكن معها العربية، وعاد صاحبنا صفر اليدين. ويجب هنا استثناء آلاف أجهزة الكمبيوتر اليابانية التي قد تكون وفرت للوزارة والمدارس لحاجة أو لغير حاجة. ولسوء الحظ أن أحداً لم يزر مقاصف المدارس اليابانية، فلو حصل ذلك لعمم السوشي، والساشيمي على مقاصف مدارسنا بدلاً من الفطائر المدهنة، والهوت دوق، والبيتزاء التي لعبت بصحة أولادنا.
هذه الأيام غيرنا الموجة على سنغافورة، أي أن الهوا أصبح سنغافورياً، مع الاعتذار لمحمد عبده، وأضحت سنغافورة قبلة التعليم، ومثل من أراد يضرب مثلاً، أو أن يعصف بعقولنا بأفكار لا تطبق وأماني لا تتحقق. وأصبحنا نشد الرحال لسنغافورة في انتدابات، وزيارات، أذهلت السنغافوريين أنفسهم، لأنهم لم يعرفوا قبل ذلك أنهم على هذا القدر من الأهمية. وكما هو معروف فالطقس السنغافوري معتدل، والبلد جميل يشجع على التعلم والتعليم، وعلى الإغفاء وأحلام اليقظة.
يوجد في سنغافورة عدد من شركات الكمبيوتر الناجحة بدعم استثماري خارجي، وهي توفر فرعاً من فروع الرياضيات الذي يدعم عمل هذه الشركات، وهي بلد صغير نظيف وبها طبقة ثرية وبعض المدارس الناجحة، ولكن بها أحياء فقيرة، ومدارس تعيسة أيضاً, ونحن كذلك لدينا عدد من المدارس الأهلية الخاصة التي قد تفوق المدارس السنغافورية، يدرس بها المحظيون، والمحظوظون من أبناء الطبقة الميسورة. ويمكننا أن نتعلم منها بدلاً من القفز فوقها للخارج. ولكننا الآن بدأنا نردد الموال السنغافوري، ونأتي من سنغافورة وغيرها بمن يعلمنا كيف نحسن مدارسنا، وكأننا بعد خمسين سنة تعليم لا زلنا لا نعرف طريقنا. أمول عامة طائلة تصرف على مؤتمرات لم تقيم الفائدة الفعلية لأي منها.
الدرس الأول في علوم التربية، والذي يعرفه جميع التربويين، هو أن العملية التربوية هي وليدة سياقات ثقافية معينة، وتحكمها عوامل اجتماعية، وتاريخية، وجغرافية، وسياسية، ودينية، وإيديولوجية. ولا يمكن مقارنة عملية تعليمية في دولة بأخرى في دولة تختلف عنها جذرياً في هذه السياقات. لأن هذه السياقات تشكل بمجملها رؤية المجتمع للكون، والطبيعة، والحياة. فاليابان مثلاً بلد مختلف مناخياً، وتاريخياً، وله رؤية مختلفة للحياة والعمل، وتقاليد مختلفة، فلو تركها اليابانيون وتبنوا قيم برنستون، وهارفرد لما بقي اليابان ياباناً. والطبقة المتحكمة في سنغافورة هي طبقة السكان الصينيون الذين تربطهم علاقات قوية بهونج كونج، وتايوان، والصين. وهم امتداد لأضخم كتلة بشرية في العالم بقدراتها وثرواتها. وتعليمهم دنيوي وعلماني، لا تشغل مقررات الصم والغيب حيزاً كبيراً من مناهجه مثلما لدينا حيث يأخذ التعليم بأمور الدنيا والآخرة معاً.
مشكلة التعليم لدينا مشكلة إدارية قبل كل شيء. وهي حلقة في منظومة متكاملة من العوامل التي تعاني منها جميع القطاعات بداية من البيروقراطية، والمركزية، وانتهاء باختيار الأشخاص للمهام بالطرق الودية المتعارف عليها. وهي مرتبطة بمجالات التعليم الأخرى وعلى وجه الخصوص التعليم العالي. فمستوى الكثير من خريجي جامعاتنا، وعلى وجه الخصوص كليات المعلمين، قد يصلح لسوق العمل، ولكن ليس للتعليم. ويمكن القول أن الشرط الأساسي للنهوض بالتعليم لدينا هو وجود كليات للمعلمين على مستوى عال مهمتها تخريج المعلمين المؤهلين.
يضاف لذلك قضية مهمة أخرى، وهي أنه يجب أن يتوافر في من يتسلم مركزاً قيادياً في مجال التعليم القدرة على فهم مشكلات التعليم حسب سياقاتها الموجودة لدينا، وأن يكون من ذوي الخبرة التربوية العلمية الدقيقة، قادراً على إيجاد حلول مبتكرة لقضايا التعليم لدينا بدلاً من اللجوء للخبرات الأجنبية في كل مرة. أي أن يكون خبيراً، لا سمساراً أو وسيطاً للخبرة. فهذه الشركات أو الخبرات الأجنبية لديها هدف واحد فقط وهو المال.
ويمكن القول أن مشكلات التربية والتعليم لدينا معروفة، ولدينا من التربويين الحقيقيين -لا حملة شهادات كيفما اتفق- من يستطيع النهوض بالعملية التربوية لدينا، ولكن نتمنى أن تأتي الأيام المقبلة بمثل هؤلاء ليقدموا الرؤى والحلول الكفيلة بإخراجنا مما نحن فيه من تخبط، ويجب أن تطرح جميع الحلول المقترحة للنقاش العام بكل شفافية قبل تطبيقها، لا أن يسمع عنها المواطنون كأرقام في مشاريع على طريقة التجربة والخطأ، بشكل تذهب فيها موارد كبيرة من المال العام أدراج الرياح.
الكاتب قد أكد في السابق، وفي عدة مقالات، أن وزارة التربية والتعليم كيان ضخم مترهل ولا يمكن أن يدار بصورة مركزية، وأن هناك مشكلات حقيقية في إيكال مراكز إدارية هامة لغير المتخصصين في مجالاتها، أو لمن تنقصهم الخبرة والدراية بأمورها، وقد بدأنا اليوم نشاهد بوادر للحد من المركزية القاتلة في مجال إدارات التعليم، ونتمنى أن نرى بوادر على الجبهات الأخرى. نريد في المحصلة النهائية أن يتولى التعليمية لدينا من لديهم الخبرة والكفاءة للنهوض بها، لا من يحصلون على المراكز الوظيفية ويستجدون الخبرة ويتوسلونها من هنا وهناك. نحن دولة عمرها تسعون سنة ولو وقفنا وقيمنا تجربتنا التعليمية بشكل دقيق موضوعي وسعينا لاستمرارية تحديثها وتطويرها لكان ذلك أفضل لنا من تبني حلول أمريكية، أو يابانية، أو سنغافورية، والله وحده أعلم أين ستتجه البوصلة مستقبلاً لماكاو، أو ربما البرازيل.