يعتبر الوقف صيغة إسلامية متجذرة في التاريخ الإسلامي بشكل أبرز التفاعل بين الدين كعقيدة وعبادة وبين قيم التنمية بكافة أشكالها، وفي العصر الحديث أصبح الوقف أحد العناصر الحيوية التي تبرز التفاعل والتكامل بين المبادرات الحكومية والأهلية من خلال مؤسسات المجتمع المدني التي يتم دعمها عبر أموال وجهود تطوعية متنوعة. ورغم السيرة التاريخية للوقف في العالم الإسلامي إلا أنه أصبح ذا قيمة أقل مقارنة بتقدمه في الدول المتقدمة، كالدول الغربية، بسبب عدم تطور نماذج مؤسسات المجتمع المدني في الدول الإسلامية وبسبب عدم تطوير آليات ومنافذ العمل الوقفي في الدول الإسلامية حيث ظل حكراً على صور تقليدية ولم يمتد إلى مجالات تنموية حديثة كدعم البرامج البحثية والمؤسسات التعليمية والاجتماعية وغيرها.
في المملكة وبالرغم من محاولات التطوير في هذا الشأن إلا أن روح التنمية الوقفية وعلاقتها بالمجتمع ظلت متواضعة بسبب انشغال الجهات المعنية بجوانب الحصر وبالنواحي الإجرائية المتعلقة بذلك أكثر منها تطوير إستراتيجيات ومفاهيم جديدة للوقف. أضعف حلقات نظم الوقف لدينا تتمثل في الجوانب التشريعية و في تفاعل القطاع الحكومي مع مبادرات الأوقاف. ففي الجانب التشريعي لا يوجد لدينا نظام واضح للأوقاف من ناحية تنظيمه محاسبياً ومرجعياً ومالياً. يوجد لدينا اجتهاد فردي لكن ذلك لا يكفي، بل يتطلب الأمر نظاما واضحا يحيل الأوقاف إلى عمل مؤسسي يتم متابعته مالياً وإدارياً، عبر فصله مالياً عن الموارد الأخرى وإيجاد نظام حوكمة دقيق له ومرجعية تنظيمية في آلية اتخاذ قرارات الاستثمار والتنمية فيه.
فإذا ما أخذنا الوقف الجامعي كحالة نجد أن بعض الجامعات السعودية بدأت في السنوات الأخيرة التوجه نحو إنشاء أوقاف خاصة بها، وقد بدأتها قبل عدة سنوات جامعة طيبة وتبعتها الجامعات الأخرى، أسوة بما هو موجود في الجامعات المتقدمة، لكن هذه الأوقاف تعتبر مبادرات فردية تحفها المخاطر وتنقصها التشريعات التي تطمئننا على سلامتها ومستقبلها. إننا ببحث بسيط نعرف أن أوقاف الجامعات المتقدمة تدار عبر ذراع تنفيذي مستقل ومرجعية عليا وتبرز أرقامها وعملياتها الاستثمارية والتنموية بشفافية حتى أننا نعرف حجم أوقاف الجامعة وعائداتها الاستثمارية والربحية كل عام، ونعرف أن أوقاف الجامعات الأمريكية عام 2008م بلغت حوالي 400 مليار دولار أبرزها أوقاف جامعات هارفارد بمبلغ 53 مليار وييل بمبلغ 22 مليار و ستنافورد بمبلغ 17 مليار وبرنستون بمبلغ 16 مليار تقريبا. فهل هناك أرقام دقيقة حول الأوقاف السعودية سواء الجامعية أو غيرها؟
حتى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، الجهة المفترض أن تكون المبادرة بالتشريع والتنظيم في هذا الشأن لا تضع معلومات كافية عن الأوقاف التي تشرف عليها ولا تبرز لنا إيرادات الأوقاف وآليات حوكمتها ومحاسبيتها، وهو أمر يؤكد ضعف التنظيم وغياب المعلومات و الشفافية في هذا الشأن.
ما هي مساهمة القطاع الحكومي في دعم العمل الوقفي؟ في النظم الغربية نجد إعفاءات ضريبية وتسهيلات تقدم لتمنية الأوقاف، لكن لدينا لا يوجد أية مساهمة حكومية في هذا الشأن. لماذا لا تدعم الحكومة الوقف بمبلغ يوازي المبلغ الذي يتم الحصول عليه عن طريق الهبات والتبرعات؟ لماذا لا تمنح الجهات القادرة على استقطاب تبرعات وقفية تسهيلات في الحصول على الأراضي الحكومية المجانية التي تقام عليها أوقافها وتسهيلات في استيراد المواد وغيرها من التسهيلات؟ ارجو أن يبادر مجلس الشورى بالتعاون مع الجهات المعنية بمناقشة وضع نظام متكامل للأوقاف، حتى نشجع هذا المورد الحيوي الهام ،بل وحتى لا نخسر الجهود والمبادرات الحالية..
وللموضوع بقية.