بعد أن وجّه خادم الحرمين كلمته التي لامست قلوب الناس، وبعد أن شكر شعبه الواعي، المتعقل الحكيم، ووجه شكراً خاصاً لعلماء ومفكري وأدباء هذا الشعب الذي يدرك حقيقة الاستقرار، ويعرف قيمة الأمن والاطمئنان، وبعد أن أعلن - وفقه الله - وجوب تقدير أهل العلم والحكمة، خصوصاً «هيئة كبار العلماء» ودعا إلى تبادل التقدير والاحترام بين الناس في بلاد التوحيد، بلاد الحرمين الشريفين، وبعد أن صرح بمثل ذلك النائب الثاني وزير الداخلية الأمير نايف، وبعد التلاحم الرائع الذي رسم لوحة نادرة في هذه الحقبة من تاريخ الأمة الإسلامية، والعالم العربي - بخاصة - ذلك التلاحم القوي بين أفراد الشعب السعودي، وقبائله من جانب، وبينهم وبين ولاة الأمر من جانب آخر، أقول: بعد ذلك كله، وبعد حزمة القرارات الذهبية التي فرح بها الناس، انتشر الإحساس بالراحة والهدوء، وسكنت نفوس أولئك الذين كانوا يراقبون «ثورات التغيير» في العالم العربي خائفين مترقبين، وشعر المتابع بأن الشعب السعودي استطاع أن يفرق بين الأشياء، ويميز بين الأوضاع، كما استطاع أن يحدد موقفه مما يجري بصورة واضحة، وأن يدرك أن تصحيح الأخطاء، وتحقيق الإصلاح في المملكة يمكن أن يتم بصورة أخرى غير صورة الثورات، والتغيير القائم على استخدام سلاح الحشود البشرية - حتى وإن كانت حشوداً مسالمة - لأن الوضع في المملكة العربية السعودية يختلف عن أوضاع تلك البلاد العربية التي أخرجتها الثورات والمظاهرات السلمية من سراديب القهر، والظلم الظاهر، والفساد الإداري والاقتصادي والاجتماعي، وما هو أشد من ذلك من أنواع الفساد الفكري والعقدي التي لا تخفى على الناس، لقد أدرك الشعب السعودي أن تحقيق مطالبه يمكن أن يتم بالتلاحم القوي بينه وبين علمائه وحكمائه وولاة أمره، فسلك هذا الطريق بيقين وإصرار هنا برزت العلاقة بين العلماء وولاة الأمر في أحسن صورها، كما برز التأثير الكبير للعلماء في المجتمع، وتجلى حرص الناس على الاستبراء لدينهم بالإنصات إلى فتاوى العلماء، وآراء الحكماء في تحديد الموقف من الأحداث الكبرى التي تجري في عالم اليوم، كحرصهم على ذلك في شؤونهم الخاصة.
إنها المسؤولية المشتركة بين أفراد الشعب الموحد على مبادئ الإسلام حاكماً وعالماً ومحكوماً، مسؤولية توجب على الجميع القيام بأدوارهم المطلوبة منهم خير قيام، وتحمل الحاكم مسؤوليته الكبرى في تحقيق مصالح الناس، ومضاعفة الجهد في رعايتهم، والعناية بهم، كما تحمل العالم مسؤوليته الكبرى في الصدق والإخلاص في نصيحته لولاة الأمر من جانب، ولعامة الناس من جانب آخر، وتحمل - بعد ذلك - أفراد الشعب مسؤوليتهم الكبرى في القيام بما يجب عليهم من الإخلاص في العمل، وتوثيق عُرى التواصل والتلاحم فيما بينهم.
ولعل الجانب التنفيذي - مقابل هذه الصورة المشرقة - هو الجانب المهم الذي سيحقق المصداقية أمام الناس، فالمسؤولون في الدوائر الحكومية المختلفة من وزراء وأمراء ومحافظين وغيرهم من أصحاب المسؤوليات الكبرى والصغرى، مطالبون في تنفيذ القرارات، والبعد عن التأجيل والتسويف، ومحاربة ما يشكو منه الناس من الفساد الإداري المتمثل في تغليب المصالح الشخصية على المصالح العامة، وما يسمى «بالمحسوبية» التي تحجب الحق عن صاحبه، والرشوة التي ما انتشرت في مجتمع إلا كانت سبب هلاكه ودماره، وهم مطالبون كذلك بتطوير الأداء الوظيفي وتدريب الموظفين حتى يشعروا بمسؤوليتهم في الإتقان وسرعة الإنجاز.
علماء التوحيد في بلد التوحيد يحظون بقيمة خاصة عند ولاة الأمر وعامة الناس، فهم أصحاب العبء الأكبر في المجتمع، وجدير بهم أن يكونوا عند حسن ظن الناس بهم، وإنما يتحقق ذلك بمراقبة الله عز وجل فيما يقولون ويفعلون، وبالإخلاص في تقديم النصيحة لولاة الأمر بنزاهة وتجرد لا يتحقق دور العالم الكبير في الأمة بدونهما.
صورة مشرقة من التلاحم تستحق منا جميعاً أن نحافظ عليها ونريدها بالمثابرة والاجتهاد إشرافاً.