المتابع للأحداث والقارئ في التاريخ والمطلع على سير الكتاب ومدوناتهم ومؤلفاتهم وما تركوه خلفهم من تراث مخطوط ومطبوع يلحظ بشكل دقيق تبدل الخطاب الصحفي السعودي حسب مراحل التغيير التي مر بها ويمر بها المجتمع، فالكاتب غالباً يمارس مهامه التشخيصية والنقدية والتوجيهية بل وحتى السيادية على ضوء ما هو واقع في ساحتنا المحلية وعلاقاتنا الخارجية، وجزماً نتفق في ظل المعطيات المحلية والظروف العربية والعالمية الحالية أننا في عهد جديد له ملامح تختلف عن سابقتها بشكل أو بآخر، كما أن لهذا الوقت بالذات مستلزمات ومتطلبات يفرضها الواقع وتمليها التحديات، فالساحة العربية وأحداثها الأخيرة ألقت بظلالها على الإعلام وفرضت تحديات جديدة يجب مواجهتها بأسلوب عصري واع، فهي بصدق تتطلب أساليب وطرائق في التناول تنسجم مع مقتضيات الواقع ودلالاته ومعطياته وكيفية التعامل معه في عصر يسعى فيه المجتمع السعودي للوفاء بمستلزمات مجتمع المعرفة وفي ذات الوقت يحتفظ بمنهجه وتقاليده الراسخة في التناول الصحفي اليومي للقضايا والأحداث والموضوعات التي تمتد جذورها في التراث والماضي القريب منه والبعيد وتستحوذ في ذات الوقت على اهتمامات المواطن في الحاضر المنير وتتلمس آفاقها المستقبلية برؤية منهجية واضحة، وإذا كان من الصعب مهنياً ومنهجياً أن تكتمل ملامح المنهج وقواعده في طرح لمقال صحفي حيث يقتضي ذلك مساحة أكبر وجدلا أوسع وتعاطيا أشمل في مسيرة مستمرة، فإنني هنا أتناول باقتضاب أحد أهم الملامح الرئيسية في هذا المجال.
لا ينكر أحد أن القارئ السعودي يتميز بالوعي والقدرة على قراءة ما خلف السطور وربما توصل إلى سر تركيز الكاتب وممارسته النقد على هذا الجهاز دون غيره، وفي هذا الوقت بالذات، وعلى هذا فالمهنية والاحترافية التي لا بد أن يتسم بها الإعلامي عامة والكاتب الصحفي بصفة خاصة تملي على الكاتب أن يرتقي طموحه دائماً إلى القسط الأكبر من المعلومات والتحليل والنقد البناء وأن يطرح بدائل من الأفكار والحلول المدروسة التي تتلاءم والتطلعات من جهة وتكون من جهة أخرى قابلة للتطبيق في ساحتنا المحلية، حينئذ ستلقى الاهتمام والمتابعة من قبل القارئ والمسئول على حد سواء ويكون الكاتب أدى مهمته الأساسية في النقد الواعي الذي يقوم على تحليل الواقع واستقراء العلاقات التي تربط بين أبعاده وسبر أغوار أطره الأساسية والكشف عن الجذور والعلل المؤدية إلى المشكلة - يحكمه في ذلك - مع تغير الموضوعات والمشكلات جملة من الثوابت التي لا تتبدل بتبدل الموضوع أو المشكلة، هذه الثوابت فيها ما هو مهني يتعلق بآليات دراسة الموضوع وشمولية المعلومات ودقتها والبعد عن الشخصنة، وفيها ما هو منطقي يرتبط بالموضوعية وبناء الاستنتاج على مقدمات صادقة، والتفريق بين الذاتي والموضوعي، الاحتمالي واليقيني، الحقيقة والرأي الشخصي، السياسي والاقتصادي والإداري ومهنية العرض ومنطقية الحكم تحاط بقيم متأصلة من النزاهة والوطنية التي تجعل من التقدم الوسيلة المثلى في التطوير والرقي والتقدم ومواجهة ما يستجد من معوقات وتحديات وتشبع الرغبة المجتمعية في التفاعل السليم مع الحاضر، وتشجع على طرح الأفكار والمبادرات من قبل الأفراد الذين ينتمون إلى أعمالهم من أجل تطوير مؤسساتهم وخدمة رسالتهم وتنمية بيئتهم وترقية مجتمعهم المحلي.
أعتقد شخصياً أن الاستمرار في هذا الخط الكتابي والنهج الصحفي لذوي الأقلام المؤثرة هو الطريق الأقرب لتجاوز العديد من المعارك الهجومية في الصحف التي لا تستهدف سوى التشكيك في كفاءة ما، أو تصفية حساب مؤسسي أو فردي، وغالباً قد تجذر هذه الكتابات الموجهة للأشخاص أو المؤسسات لا للعمل أو الفاعلية المجتمعية عداءات وحزازات وإيغارما في الصدور وتنحرف عن المسار الصحيح للكتابة الوطنية التي تهدف إلى الإصلاح الشامل والمتكامل ومحاربة الفساد بكل دلالاته وبجميع مفرداته وسبله ومعطياته وإلى لقاء والسلام.