هي سنَّة الله في خلقه أن يكون كل شيء متدرجاً متصلاً متطوراً إلى الأمام، وأن يرى الإنسان في التراجع والجمود مأزقاً يتطلع إلى الخروج منه، نحو ما يتفق مع طبيعة الارتقائية، التي فطره الله عليها.
هذه السنّة الإلهية تنطبق قبل كل شيء على بني آدم، وهم أسمى المخلوقات، وإلا لما خصهم رب العزة والجلالة بالتكريم، ورفعهم فوق سائر مخلوقاته، وخصهم بحياة تقوم على قيم روحية ومعنوية أساساً، ليست ولا يجوز أن تكون مكرسة للطعام والشراب وحدهما، وإلا كانت حياة بهيمية لا تليق بالكائن الإنساني: المكلّف بعمارة الأرض وعدم الإفساد فيها.
والإنسان يمر في حياته بأطوار تذهب جميعها إلى الأمام، إلى أن تنتهي بلقاء ربه، وهو في الإيمان طور الذروة منها، ما دام يضمر احتمال الخلود في النعيم، إذا كانت أعمال الإنسان صالحة وسلم الناس من لسانه ويده، وتعامل مع بني جنسه باعتباره جزءاً من بنيان مرصوص يشد بعضه بعضاً، هو فيه للجميع والجميع فيه له، بالخير والنفع.
أما المجتمع، فهو يتطلع بدوره إلى التغير والتقدم نحو الأفضل، ليس لأنه مجموع بني الإنسان، بل كذلك لأنه كيان مستقل عن مكوناته، يتوقف عليه ما تمارسه هذه من فضيلة، ويتوقف عليها ما ينعم به هو من عدل وتراحم، فالمعادلة هنا متوازنة متكاملة، ومن غير الممكن أن يوجد مجتمع فاضل أعضاؤه فاسقون أو منحرفون أو مارقون، كما لا يوجد إنسان فاضل في مجتمع ظالم فاسد.
وقد قيل من قديم الزمان إن الإنسان هو المجتمع في صعيده الخاص والذاتي، والمجتمع هو الإنسان في صورته العامة، فلا انفصال بينهما، إلا عندما تنحرف الأمور عن طبائعها ويتدهور كل شيء، فتبدأ عندئذ دورة هابطة يتبادل فيها الطرفان كل ما من شأنه زيادة أحوالهما سوءاً وتفككاً وهشاشة.
في لحظات تاريخية صعبة كهذه، يصير من الضروري الخروج من المأزق عبر ركائز جديدة تنهض عليها حياتهما، تعيد التوفيق بينهما وتضعهما من جديد على الدرب الصحيح: الذي يجب أن يكون درب عدالة وتفاعل إيجابي وتواصل تكاملي، يؤسس حاضنة مجتمعية للإنسان تضمه إلى صدرها، ويربي للمجتمع إنساناً يألم لما قد يصيبه من أذى، ويسعد حين يقدم له خدماته ويضع نفسه في حالة انسجام مع الآخرين من أفراده، ويبنيه على خير ما يكون البناء.
بينما الدولة: الصعيد المؤسساتي والسياسي من علاقة الإنسان الفرد مع مجتمعه، الذي هو موطن ومصدر الشأن العام، كما تتجلى، أو يجب أن تتجلّى فيه جملة المصالح الجامعة للطرفين، فهي في حياتنا الحديثة الجهة التي تتولى تنظيم كل ما يتخطى النطاق الذاتي الخاص، ما دام هذا خارج أية علاقة عامة أو ذات مدلول عام، وتضع ضوابط فيها مصلحة الجميع أو ما يفترض أنه كذلك، لكونها تطبّق معايير وقوانين يتساوى الجميع أمامها فهي إذن واجبة الطاعة، بينما تمتلك هي كدولة سيادة مستقلة نسبياً عنهم، تتصل بنمط من المصالح يعبر في آن معاً عن مصالح الفرد والمجتمع، ويختلف عنها ويسمو عليها بخصوصيات محددة تنبثق من طبيعة الدولة كجهاز إداري أعلى ومجرد يستخدم السياسة لتنظيم أحوال الجماعة الوطنية الخاضعة له في شتى مرافقها، فإن أحسن كسب القبول والشرعية، وإن أساء كان عليه العمل على استعادة التوازن المفقود بينه وبينها، وإلا عرض نفسه وعرضها هي أيضاً للخطر.
ليست العلاقة بين هذه المكونات الثلاثة من نمط نهائي لا يقبل التغيير والتعديل والتجديد، بل هي علاقة مفتوحة، وإلا فإنها لا تكون مستقرة وشرعية.
لذلك قال بعض الفلاسفة بضرورة أن يمسك الحكماء بأعنة الدولة كراعية للشأن العام، ودعوا إلى نمط من العلاقة بينها وبين مجتمعها ومواطنها (الإنسان في الدولة مواطن أو يجب أن يكون كذلك) تتطابق فيها مصالح وأولويات الجميع بلا استثناء، بالنظر إلى أن حكم الفرد ينحرف إلى الطغيان، وحكم النخبة إلى حكم القلة، وحكم الأكثرية إلى حكم الفوضى وانعدام القانون، وفي الحالات الثلاث تخفق الدولة في تحقيق وظائفها، وتضع نفسها خارج أية شرعية، وخصوصاً إن كان دستورها لا يحب حساباً لهذه الانحرافات الثلاثة، ولا يضع عوائق حقيقية أمام وقوعها، ولا يتسم بالرحابة والاعتدال.
واليوم، ونحن نتأمل في عجالة علاقة كتبت عنها ملايين الصفحات، وتصدت لها خيرة عقول بني البشر على مر تاريخهم لقديم والحديث، ووصل الناس فيها إلى اجتهادات متنوّعة - متضاربة، من المهم القول: إن حياة الإنسان والمجتمع والدولة يجب أن تقوم على بنى مفتوحة، تبادلية العلاقات تطورية المكونات، لكل مكون من هذه المكونات الثلاثة فيها دور ووظيفة بالتقابل والتتابع، وإن اختلفت الوظائف في أحجامها وطابعها، وتباينت من ظرف لآخر وحملت سمات الواقع الذي تمر فيه، والذي لا يثبت على حال وإنما يتبدل مع كل تطور أو واقعة جديدة، فلا بد من أن يساعده الإنسان والمجتمع وتعينه الدولة على بلوغ أفضل أوضاعه، مع احترام نسقه الخاص الذاهب دوماً إلى المختلف والجديد، الذي غالباً ما نسميه الأفضل والأحسن، لأنه كثيراً ما يتيح لنا قدرات وفرصاً مختلفة عن تلك التي نملكها, إن هي أضيفت إليها جعلت وجودنا أكثر امتلاءً وأوفر ثروات، ووسعت ممكناته بما تتيحه لنا من هوامش فكر وفعل أشد رحابة وحرية.
تسد الطرق المفتوحة أحياناً فتضطرب - وقد تنهار- العلاقات بين الفرد والمجتمع والدولة.
عندئذ يكون من الضروري الإسراع إلى إعادة فتحها، لأن احتجازها وبقاءها مغلقة يؤديان إلى مضاعفات لا تحمد عقباها، لا يريد وقوعها محب للبشر وعضو في مجتمع وراغب في دولة.
ومن لا يصدق، فليتأمل ما يعيشه عرب هذه الأيام من مضاعفات سببتها الدروب المغلقة، وتتيح لها فرص التوسع والتعمق العقول والصدور الضيقة!