الميزة البيّنة في المهرجانات الثقافية هو تلاقي الأفكار المتنوعة، وتلاقح الثقافات المتغايرة، يهدف منها القائمون عليها في الأغلب الأعم إلى التحاور والتلاقي لغرس الرضا والقبول بين الجميع، ولكن يبقى هناك من لا يريد إلا أن يتقبله الآخرون كل الآخرين، بينما هي أو هو أو هن أو هم لا يريدون أن يظهر في مشهدنا الثقافي سوى بعثرة أفكارهم وجلجلة رؤاهم، وهذا هو التناقض بعينه الذي يديم الفجوة التي تبدو سيماها في مجتمعنا الفكري بين المحافظين المعتدلين وبين المتأثرين بالمشهد الثقافي الغربي شكلاً ومضموناً.
ويلاحظ أبناء المجتمع أن الساحة الثقافية والإعلامية قد استأثرت بها فئات معينة ترى في المنابع الغربية الأدبية والفنية والفلسفية نماذج تُحتذى بحذافيرها، وترى أن ذلك الاتباع هو الإبداع، وفي ذات الوقت تُستبعد الفئات المحافظة، فلم نعد نسمع ذكراً للمحاضرات أو الندوات ذات الطابع الديني أو القِيَمي في أي محفل ثقافي إعلامي، ولم تعد تُستقطب الوجوه الثقافية الوسطية فيها، وإن استُثني من ذلك أحد فإنه يكون ممن غيّر توجهه بصورة جلية، أو تُملى عليه الشروط، فلا تتعجبوا إذن إذا رأيتم الجفوة مستمرة بين الطرفين.
ولكني لاحظت نوعاً من الميل نحو التوازن في مهرجان عنيزة الثقافي الأخير الذي سررت بكثير مما رأيت فيه، وسعدت أكثر بمشاركتي بورقة إعلامية حول إعلامنا والمرأة السعودية، وأشد ما ساهم في بهجتي وحبوري هو رؤية الخيّرات من بنات القصيم وسيداته الفاعلات، وفي مقدمتهن سمو الأميرة نورة بنت محمد حرم سمو أمير القصيم التي حضرت جميع فعاليات المهرجان بحرص وتفاعل ملحوظين قلباً وقالباً، وكان لها مداخلات إعلامية قديرة تستحق الوقوف عندها طويلاً لأنها تعبر عن الرأي الفكري في مجتمعنا الوسطي الذي لا يقبل الضيم في دينه، ومن ضمن مداخلاتها -وفقها الله للخير- قولها: الملاحظ أن هناك العديد من الكتاب والكاتبات من يكتب في موضوع معين ورأي واحد يرددونه، بل يكثر تكرارهم له بدرجة غريبة وغير مستساغة، وقد يكون تناولهم له غير حيادي وغير مقنع، بينما توجد موضوعات أكثر أهمية وأولى أن تناقش لأن الكلمة الصحفية أمانة عظيمة أمام الله ثم أمام خلقه.
كما تفضلت وكيلة كلية الشريعة في القصيم بمداخلات نقدية مقنعة عديدة، مثل رأيها حول زواج الصغيرات أو القاصرات، موضحة بأنها قد تزوجت وعمرها حوالي خمسة عشر عاماً ومع ذلك فهي تتحمّد العاقبة إلى الآن، وتتمنى أن توافق ابنتها المراهقة على الزواج المبكر لأننا في زمن يموج بالمغريات والفتن الموحشة والمخاطر التي تحيط بالشباب عموماً والشابات على وجه الخصوص، وأن هناك فرقاً بين التزويج القسري وبين الزواج الذي يتم عن قبول وتراضٍ بين الطرفين كما أمر به الإسلام.
ومن النماذج الإيجابية العديدة المثيرة للتفاؤل حقاً في ذلك المهرجان: بعض الشخصيات القائمة عليه مثل مديرة جمعية الأميرة نورة بنت عبد الرحمن بعنيزة، والفريق العملي المعاضد لها، فقد كانت هذه المجموعة قمة في رقي التعامل، وكرم الأخلاق، طيلة أيام المهرجان الثقافي ولياليه، لاسيما في ختام اللقاء وقبل لحظات الرحيل إلى العاصمة أنصتت قائدة الفريق بكل تفهم وحماس لجميع المقترحات ووجهات النظر التي قدمتها إليها، ووعدت بالنظر الفعلي مستقبلاً فيها، لذا فالجميع يأمل أن يكون غداً لناظره قريب في جميع مهرجاناتنا الثقافية والإعلامية القادمة، ولا مكان للإقصاء مستقبلاً، لاسيما لمن يحمل هَمَّ الدين وحب الوطن.