عندما ترى المثقف والمسؤول يراجع بشكل شخصي في دائرة حكومية، أو يقضي أعباءه اليومية في أحد المتاجر أو في الأسواق، أو عندما يقود سيارته بنفسه هل هو نفسه المثقف والمسؤول الذي يتحدث للإعلام عن القيم والأخلاق والمثل، عن رؤيته الشخصية عن أسباب تأخر المجتمعات وتعثر بعضها في الوصول للتنمية؟ هل يمكن أن تميز المثقف عندما نقف في صف عام؟ هل يلتزم أم أنه كغيره يقفز الآخرين، وربما بحث عن واسطة تدفع عمله وتقصر وقت إنجازه؟ وبهذه اللحظة يتخلص المثقف «المحترم» من كل قيمه ليساير المجتمع في أخطائه، لكنه عندما يتحدث في ندوة أو في محاضرة أو يؤلِّف كتاباً أو يكتب مقالاً ترى رجلاً آخر كملاك، أو امرأة أخرى هي أقرب للطهارة منها للخطأ.. جميعنا نختلط بالمثقفين والمفكرين والإعلاميين والمنظِّرين والمسؤولين الذين يتكلمون عن الفضيلة، والذين يحثون الناس على عمل الصواب وتجنب الخطأ، لكن لا نستطيع أن نميزهم في المطارات أو في المحال أو في الأسواق أو في طريقة قيادتهم لسياراتهم؛ لأنهم كالناس تماماً، يذوبون في أخطاء المجتمع، ويعودون لممارستها، والأسوأ أنه ربما حمل بعضهم تبريرات هشّة ضعيفة واهنة وصغيرة لمجاراة المجتمع بحجة أنه لن ينجز أعماله إلا بالرضوخ لهم، أو بحجة ضيق الوقت أو بدليل أنه يحفظ مقام نفسه من الإهانة.. وسيجدون آلاف الأسباب والأعذار مستخدمين لغتهم الفذّة في التبرير وذكاءهم في الالتفاف على ذلك كما لو كانوا مطالَبين بتبرير سلبيتهم.
فبدلاً من مواجهة أخطائهم، وبدلاً من أن يبرر الواسطة والكذب والتدليس والخداع.. الأجدر به أن يعترف به في نفسه أولاً؛ لأن الاعتراف به بداية الحل وأولى خطوات التصحيح، كالمريض تماماً الذي ينكر أنه مريض؛ كيف يمكنك أن تعطيه دواءه؟ كيف يمكنك أن تقول لها أنت رجل غير صحيح ويجب أن تقاوم الآفة التي بداخلك إن لم يؤمن بها؟ ألا يبدو الأمر مؤسفاً؟!
المثقف والمفكر والمسؤول في بلدنا يذوب في المجتمع؛ فآلة المجتمع أقوى منه، بل هو مستسلم لها لدرجة أنه لا يستطيع حتى إدانتها ولا يستطيع أن يعترف بسقوطه في مستنقع هذه الآلة؛ فلا يزال المثقف الذي يتحدث عن القصيدة يمارس الكذب عندما يمدح صديقه بقصيدة هشّة واهنة لا ترقى للمستوى؛ لأن الكذب لا يزال في داخلنا كلنا، وإن سمحتم لي بتلطيف كلمة الكذب سأقول إنها «المبالغة في المجاملة».
المسؤول هو الآخر يُصرّح للصحافة بشيء، ويفعل عكسه، يعاني الواسطة التي تخترق مؤسسته حتى النخاع، وأنها تعبث بالعمل في منشآته، ولكنه هو أول مَنْ يبحث عنها عندما يتعلق الأمر به أو بأحد أبنائه إن كان له عمل أو حاجة أو مصلحة في دائرة أخرى.
في الحقيقة، فكرة هذا المقال جاءت بعد اتصال هاتفي دار بيني وبين مسؤول كبير، في فترة التحية أبلغني بأنه متوتر؛ لأنه بانتظار نتيجة ابنه في الثانوية العامة. بذهول سألته: أنت تنتظر النتيجة إلى حين تُنشر في الصحف؟ مثلك تأتيه النتيجة حتى باب بيته. رد: لا، أنا لا يمكن أن أستخدم موقعي وسلطتي ونفوذي, ربَّيتُ أبنائي ليكونوا مثل الجميع!
السؤال الذي يطرح نفسه: هل سنفيق يوماً ما؟
www.salmogren.net