عندما تباهي الأمم بحضاراتها وإنجازاتها، فإن بغداد والبصرة والكندي وبن حنبل.. وغيرها على رأس ما نلوح به. فقد كانت منارات مضيئة تشع بعطاء الفكر العربي لقرون.
لكن ما بال بغداد تخجل من عروبتها! ما ذنب تمثال أبو جعفر المنصور -الذي جعل من بغداد عاصمة للدنيا- يرمى بما قل ثمنه!! كيف يجرؤ شعوبي ينطق باسم الحكومة العراقية بالسخرية من الحقيقة التي تقول: إن العراق هو البوابة الشرقية للأمة العربية.. وهو نفسه القائل: كل مصائب العراق تأتي عن طريق مطار دمشق، أما الجمهورية الإسلامية الإيرانية فلا تريد للعراق إلا الخير. تناغم واضح مع تصريح للشاه في أوائل السبعينيات، بأن إيران ارتكبت خطأ تاريخياً عندما سمحت بقيام دولة اسمها العراق.
ما أشبه الليلة بالبارحة
وهل أعاد التاريخ نفسه..!!
البرامكة وآل سهل وأبو مسلم الخرساني.. وغيرهم كانوا بمثابة قطب الرحى للدولة العباسية، رفعهم خلفاء بنو العباس إلى أرفع المواقع، وفضلوهم على أبناء جلدتهم. كانوا فرساً سنة، لكن لا سنيتهم ولا شيعيتهم تعني شيئاً بالنسبة لفارسيتهم. بل فرس أولاً، وفرس ثانياً، وفرس أخيراً. فمبجرد شعورهم أنهم أصبحوا يستندون إلى قاعدة صلبة وأن الأمصار والجيش يتولاها من يشاركهم نفس التطلع، تأبى فارسيتهم إلا أن ترفع أعناقها. وهنا ينتفض بنو العباس ويصححون المسار. لكن تبقى الجمر تحت الرماد دائماً.
العراق دولة العرب، عاشت أمجادهم وهمومهم وأفراحهم وكان لها القدح المعلى في الدفاع عن قضاياهم. يشكل العرب فيها ما يقرب (87%) من سكانها، وهذه النسبة تفوق نسبة الفرس في إيران أو الأتراك في تركيا. وفي أسوأ فترات التاريخ العراقي الحديث حصل الأكراد، مثلاً، على حقوق يتمناها الآن أكراد إيران وبقية الأقليات الأخرى فيها.
وبغياب الصوت العربي العراقي، أخذت الصورة العراقية ترسم بملامح غير عربية، فقد اجتمعت مجموعة كردية مع مجموعة فارسية، تحمل وثائق سفر عراقية، في إحدى العواصم الأوروبية، وتداولت موضوعاً واحداً، هو: هل العراق دولة عربية؟!.
إنه تساؤل في محلة!! فهناك حزبان كرديان: الحزب الوطني الكردستاني، والحزب الديمقراطي الكردستاني, لا يخفيان كرديتهما، فهل هناك حزب أو منظمة أو هيئة يشار إلى أنها عربية! حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي لا يملك من مقومات الحزب شيئاً، اجتث ليس لأنه بعث ولكن لأنه عربي، العلم العراقي وما يرمز له، ثلاث نجوم ترمز للعراق ومصر وسوريا، تأكيداً لعروبة العراق وأنه جزء من هذه الكتلة العربية، أصر الأكراد على حذف ذلك الرمز في حين أصروا على وجود العلم الخاص بهم. وفي الاستفتاء على الدستور أعطيت ثلاث محافظات كردية حق النقض ضد أي نتيجة يمكن أن تتبناها خمس عشرة محافظة عربية. اللغة الكردية أعطيت وزناً لا يتناسب على الإطلاق مع نسبة الأكراد في المجتمع العراقي. وفي التفاهمات الأخيرة التي تمت في الشمال العراقي لتشكيل الحكومة العراقية أصر الأكراد على اعتبار الحكومة مستقيلة إذا انسحب الوزراء الأكراد منها. رئيس الجمهورية، رمز السيادة، ووزير الخارجية الذي يعكس صورة العراق في المحافل الدولية واللذان حملا السلاح لتمزيق العراق، أصبحا فجأة واجهة العراق. إن هذا (التمدد) الكردي، كما سماه السيد إياد جمال الدين أحد الزعماء الدينيين الشيعة العراقيين العرب الحريص على وطنه وعروبته، لم يكن ليحدث لو أن أمر العراق كان بيد أبنائه العرب شيعة وسنة. لكن التقاء النوايا السيئة جمعت النقيضين، المهم طمس الهوية العربية العراقية.
يضم البرلمان العراقي أكثر من (80) عضواً من أصول إيرانية، ألسنتهم في بغداد وقلوبهم وعقولهم في طهران. وهذا يفسر ضرورة مباركة إيران لأي حكومة عراقية يراد تشكيلها. كما يفسر صمت الحكومة العراقية عن الدور السلبي الذي تقوم به المخابرات والوكالات الإيرانية الأخرى في العراق. ويفسر أيضاً صمت الحكومة العراقية عن جريمة ترتكب بحق العراق تتمثل في قيام إيران بتحويل أكثر من (40) رافداً ووادياً تصب في نهر دجلة وشط العرب. وأخيراً وليس آخراً الاستعداد مع الصين لبناء أعلى سد في العالم غرب إيران، وهذا يعني وقف أية قطرة ماء قادمة من الشرق باتجاه العراق.
إننا نرى اصطفافاً غريباً بين الأكراد السنة والفرس الشيعة. فمبجرد أن تضغط إيران ليتولى تياراً معيناً السلطة تنبرء الكتلة الكردية لدعم هذا الاتجاه. بل أكثر من ذلك، يتم القبض على عناصر استخباراتية إيرانية، جاءت لنوايا سيئة، فيقف الرئيس العراقي ليدعي أنهم ضيوف عنده.
الأكراد لم يخفوا نزعتهم الانفصالية يوماً من الأيام، ومساوماتهم خلال العملية السياسية واصطفافهم مع العناصر الفارسية، التي لم تتوقف محاولاتها منذ (14) قرناً للقضاء عل دولة اسمها العراق، وهي الآن صاحبة الصوت الأعلى في دهاليز السياسة العراقية، كلها جوانب يمكن فهمها. لكن ما لا يمكن فهمه هو الصمت العربي العراقي المطبق، وكأن (87%) من أبناء العراق لا وجود لهم ولا قول في مصير بلدهم. هم عرب أقحاح، شيعة كانوا أم سنة. كانوا دائماً السباقون للسير خلف الراية العربية عندما تهب رياح التحدي.
إن العراق يمر بمفصل خطير من تاريخه، فالأطماع الفارسية تُكسى بعباءة طائفية. فلم يعد الحوار بين عربي وفارسي كما كان في الدولة العباسية، بل بين سني وشيعي. وهنا يكون الالتباس وارد، إلا على من أعطي بصيرة ثاقبة تمكنه من قراءة التاريخ قراءة صحيحة.
إن دمع التماسيح الإيرانية على الشيعة العرب يمكن الرد عليها بحقيقة دامغة وهي:
ماذا عن الشيعة العرب في الأهواز؟ وماذا عن الشيعة الأذريين في شمال إيران؟ لماذا لم تشفع لهم شيعيتهم من البطش الفارسي؟ لماذا تفرض عليهم اللغة والثقافة الفارسية؟
كثيرة هي الأسئلة التي يمكن طرحها.. لكن ثقتنا بعرب الرافدين قوية، واعتزازهم بقوميتهم لن تشوبه شائبة. وعلى الجميع أن يعتبروا مما يحدث في كركوك، حيث يطرد العرب منها ليس لأنهم شيعة ولا لأنهم سنة، بل لأنهم عرب.