في وقت الفتن والأزمات لا يفاجأ من قرأ التاريخ، وسبر الحقائق، وأدرك خصال البشر، أن بعضاً من الناس يدور حيث تدور الرحى، ولا فرق عنده بين المساء والضحى، فالمواقف قد تتغير، والمبادئ قد تتكسر تحت تأثير حب الذات، وتغليب المصلحة على المبدأ، وربما يحدث صراع لدى البعض بين المبدأ والمنطق، وتكون النفس والتربية والعقل وموافقة الحق أو مجانبته، هي الفيصل بين الأمرين. وسيظل الإنسان كذلك إذا لم يهذب أخلاقه إيمانه، ويصغي إلى الحب بدل البغضاء، والتسامح بدل التناطح، والإنصاف بدل الجور والتعسف، والبحث عن الحق بدل الباطل، لكنه الإنسان وُضِعَ بين يديه كتباً سماوية تحثه على مكارم الأخلاق، وفلسفة تشجعه على قيم نبيلة مشتركة، ومع هذا فهو يأبى ويعود إلى سير تدفعها الأنا، وتشعل نارها الأحقاد والأهواء.وتذكرت ما جرى لابن زيدون في سجنه، وتنافر الناس منه بعد أن كانوا يتهافتون عليه تهافت الفراش على النار، فقال:
وكذا الدهر إذا ما
عز ناس ذل ناس
وبنو الأيام أطياف
سراة وخساس
نلبس الدنيا ولكن
متعة ذاك اللباس
إلى أن قال:
أنا حيران وللأمر
وضوح والتباس
ما ترى في معشر
حالوا عن الدهر وخاسوا
ورأوني سامريا
يتقى منه المساس
والسامري، أحد بني إسرائيل، لما ذهب موسى عليه السلام إلى مناجاة ربه، أضل السامري بني إسرائيل ودعاهم إلى الشرك بالله، فعاقبه الله بالوحشة والانفراد فلا يمس إنساناً إلا أدركتهما الحمى معاً، فكان يتحاشى الناس ويناديهم إذا رآهم: «لا مساس» وفي هذا إشارة إلى قوله تعالى على لسان سيدنا موسى عليه السلام {فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ}. وعند تذكري هذه الأبيات الجميلة لابن زيدون والتي كثيراً ما استشهد بها، تذكرت كتاباً أهداه لي رجل نهم في القراءة، كريم المقام، دمث الخلق، واسم الكتاب «عصر ابن زيدون» وقادتني ذاكرتي إلى ما قرأت بين طياته من مواقف لعدد من الوزراء الأندلسيين أيام الفتنة القرطبية التي حلت بالدولة الأموية في الأندلس وتقلب الأحوال وتغير وجود الرجال، في ذلك الزمان.
فابن شهيد مثلاً انتقل من الحزب الأموي الأندلسي إلى أعدائه من الحموديين البربر لأن مصلحته تقتضي ذلك، فقال:
وإن هَشَمَتْ حقّي أمَيَّة عندها
فهاتا على ظهْر المحَجَّةِ هاشِمُ
وابن درّاج لا يرى حرجاً في أن يهجو اليوم من كان مدحه بالأمس، وأن ينوّه اليوم بحزب من الأحزاب المتناحرة ليصمه بأقبح النعوت غداً. فمحركه وموجهه هو ما يترقبه من مال الممدوح بعد تملقه وإرضاء نزواته وغروره، خصوصا وقد اشتدّت الفاقة بهؤلاء الشعراء (وجمحت طباعهم وكانوا كالبزارة الفدّة الجياع انقضّت لفرط الضرورة على الجرادة).
فهذا محمد بن هاشم بن عبد الجبار في ثورته يرى فيه ابن درّاج مهدي أمه محمد، فيقول:
قلْ للخِلافةِ قدْ بلغتِ مُناكِ
ورأيْتِ ما قرَّتْ بهِ عَينَاكِ
مهْدِيُّ أمةِ أحمدِ وكَريمُها
وحليمُها يأوي إلى مَأواكِ
ولكن هذا المهدي المنتظر، يصبح قعيد الخزي أو قعيد الشرك عندما يستولي سليمان المستعين على السلطة. قال ابن درّاج:
هنئاً لهذا الدَّهْر رَوْحُ وريحانُ
وللدِّين والدُّنيا أمانٌ وإيمانُ
بأن قعيد الشَّركِ قد تُلَّ عرشه
وأن أمير المؤمنين سليمانُ
ولقائل أن يقول: إن ابن درّاج أندلسي من جملة من اغترّوا بثورة المهدي. فقد سانده ومدحه أول الأمر ولكن لما تبينت له حقيقته هجاه. لكن ماذا نقول في مدحه للبربر وهجوه لهم؟ إن السبب الوحيد في ذلك هو تغير الممدوح. فقد مدحهم لما مدح سليمان المستعين لأنهم حلفاؤه فقال:
أسُود هَياج ما تزالُ تراهُمُ
تطيرُ بهمْ الكريهةِ عِقبانُ
بكلِّ زناتِيَّ كأنُ حُسامَهُ
وهامة مَنْ لاقاهُ نارٌ وقربانُ
وأبيض صِنْهاج كأنُ سنانهُ
شِهابُ إذا أهوى لِقِرْن وشيطانُ
وهاجم عندما مدح خيران العامري، وكانوا أعداءه:
وردَّ بها يومَ اللَّقاءِ زناتَه
كما انقلبتْ يومَ الهباءَةِ ذبْيانُ
تَراءاكَ حِزْبُ البَغي منهمْ فاقتِلوا
وفي كُلِّ أنفٍ للغِوايةِ شيطانُ
وبصفة عامة أصبح الموقف السياسي من هذا الحزب أو ذاك، أو من هذه الطائفة أو تلك خلال هذه الفترة المبنية كاللباس يغيّر حسب الظروف والأحوال: قال ابن شهيد:
ولا غَرْوَ من تَرْكِ القلانِس جانبا
إذا عَرفتْ حقي هناك العمائم