يخطئ كثير من الدعاة وبعض الشباب، في تعجلهم الأمور والنتائج، وفي الدعوة إلى الله وإلى دينه الحق، فيجب أن يأخذوا من منهج الأنبياء، والدعاة الربانيين قدوة ومنهجاً فقد أدبهم خالقهم سبحانه، وهم الأنبياء والمرسلون وصفوة الخلق، على التأدب بآداب الدعوة، والتسلح بالصبر والتحمل.
لقد هذب الله نفوسهم، وجعلها صادقة ومحتسبة، ومتحيّنة الوقت المناسب، والأسلوب الملائم فقد قال الله لنبيه محمد، وهو صفوة الخلق: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (99) سورة يونس، وقال له لما حرص على هداية عميه أبي لهب وأبي طالب: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} (56) سورة القصص.
وإبراهيم عليه السلام، لم يستطع هداية والده، فاستمر في دعوته حتى نهاه ربه: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} (114) سورة التوبة.
بل بلغ من حماسة بعضهم، الاستعجال في توجيه الدعاء على الآخرين، أو الاشتراط على الله في الدعاء، بأن يصيب زيداً بنوع يخصصه من العقاب، وأن يصيب عُبَيْداً بنوع من العاهات، وبالنسبة إلى الدول يقول في قنوته في رمضان وغيره: اللهم أغرق سفنهم، وأسقط طيارتهم، ودمر آلياتهم وغير ذلك من أنواع الأدعية، التي يعتبرها بعض العلماء من التمحك في الدعاء، والعدوان. والله سبحانه لا يشترط عليه، لأنه حكيم عليم، وأدرى بأحوال عباده، وما ستؤول إليه أمورهم عاجلها وآجلها، ولذا فإن الدعاء العام أسلم بأن يقول: اللهم ادفع عنا شرورهم، أو اللهم اكفناهم بما شئت وأنت السميع.. أو غير ذلك من الأدعية التي تحقق غرضاً وراحة نفسية وليس فيها اشتراط أو تمحك. وأحسن تلك الأدعية، وفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأنبياء قلبه، وجاءت في القرآن الكريم هي: حسبي الله ونعم الوكيل، يقول سبحانه فيها: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} وقد أجابهم عز وجل، بما تطمئن إليه النفوس ويريح الأفئدة، في الآية بعدها: {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (173-174) سورة آل عمران.
قال ابن كثير في تفسيره في هذه الحكاية، أقوالاً كثيرة، كما هي عند المفسرين، ونجملها بقوله: كان ذلك في غزوة الأحزاب التي قال الله فيها: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} الأحزاب 10 - 12.
إنها الحرب وما فيها من آثار نفسية تقوية في فئة، وتثبيطاً في فئة. فقد أراد أبو سفيان - وكان يومها قائد جيش المشركين - أن يقوي نفوس المشركين وهم المنهزمون بعدما سلط الله عليهم الريح، فملأت أنوفهم بالتراب، وكفأت القدور وولوا الأدبار.
وقد مر ركب من بني عبد القيس، فقال لهم أبو سفيان أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة قال: ولم؟ قالوا: نريد الميرة، قال: فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها إليه، وأحمل لكم هذه غداً زبيباً، بعكاظ إذا وافيتمونا، قالوا: نعم، قال: فإذا وافيتموه فأخبروه، أنّا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم.
فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان قد رجع، وقد قذف الله في قلبه فمن ينتدب في طلبه؟ فقام النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوبكر وعمر وعثمان وعلي، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأتبعوهم، فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم يطلبه، فلقي عِيراً من التجار فقال: ردوا محمداً ولكم من الجُعل كذا وكذا، وأخبروه أني قد جمعت له جموعاً، وأنني راجع إليهم.
فجاء التجار بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حسبنا الله ونعم الوكيل) فأنزل الله هذه الآية (2 - 146).
قال البخاري حدثنا أحمد بن يونس بسنده إلى ابن عباس قال: كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: (حسبنا الله ونعم الوكيل) وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إِن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا (حسبنا الله ونعم الوكيل) فنزلت هذه الآية (المرجع السابق ص 147).
وما ذلك إلا أن المؤمن، وقت الفتن والزعازع، ينتابه أمور وإرجافات، فما عليه إلا الامتثال بهذا الدعاء، فيهئ الله ما دام الداعي صادقاً ومن قلب مؤمن فيرتاح بذلك لأنه ترك الناس وأراجيفهم وسلم الأمر لله فهو حسبه وكافيه، لأنه فوض الأمر لله سبحانه، وكفى بالله وكيلاً. وتأتي آيات كثيرة، وأدعية موجزة، يدفع الله بها البلاء والشرور عن الداعي، ففي دعاء القنوت: اللهم ادفع عنا من البلاء ما لا يدفعه إلا أنت، وفي دعاء السفر: اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في المال والأهل والولد.
حدثني كثير من الإخوان، من الإمارات والكويت، ومن المملكة، الذين يسافرون في الإجازات؛ للحج والعمرة، أنهم يرون عياناً مدافعة الله عنهم، في تلك، من حوادث كادت أن تصيبهم: إما بسبب السرعة، أو بالنوم أو الغفلة، أو عطل مفاجئ في السيارة أو بأحد إطاراتها..
فيجافئ الله عنهم البلاء، تصديقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حثه على دعاء السفر وغيرها من الأدعية التي يدفع الله بها البلايا والمصائب. هذا في الحرص على الأدعية ودورها في دفع البلاء إذ يذكر ابن الجوزي رحمه الله في تفسيره: زاد المسير في علم المسير، عندما مر بالآية الكريمة من سورة الحج: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} فقد قرئت: دفع ودفاع وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: أن معناه: لولا أن الله يدفع بمن أطاعه، عمن عصاه، كما دفع عن المتخلفين عن طالوت بمن أطاعه لهلك العصاة بسرعة العقوبة، قاله: مجاهد، والثاني أن معناه: لولا دفع الله المشركين بالمسلمين، لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المسلمين، وخربوا المساجد، قاله مقاتل، ومعنى لفسدت الأرض: لهلك أهلها.
ثم تلتها الآية: {تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ}: أي نقص عليك يا محمد، من أخبار المتقدمين (وإنك لمن المرسلين) حكمك حكمهم، فمن صدقك فسبيله سبيل من صدقهم، ومن عصاك فسبيله سبيل من عصاهم (زاد المسير لابن الجوزي) (300 - 301).
وبعد أن سرنا مع المفسرين، في إيضاح مدافعة الله سبحانه عن المؤمنين نحب أن نربط ذلك بما أوجد الله في أجسامنا من أمور تدافع كالخلايا مثلاً، المتكاثرة في أجسادنا، فهي عالم مستقل بعملها المتواصل في تجديد وتنظيم مسيرة أبداننا، ولا يدرك ماهية عملها إلا قليل من المختصين.
والدخول في دقائقها، وتفاصيلها، مما يزيد المرء إيماناً، وعرفاناً بفضل الله عليه، {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (سورة الأعلى الآيتان 2-3).
فهو سبحانه قدر في أجساد بني آدم، جنوداً تعمل بإحكام وحماية للجسم ليل نهار، وإنها لدعوة، للتمعن مع أشهر طبيب فرنساوي: إنه موريس بوكاي الشهير الذي أسلم على يد الملك فيصل رحمه الله، ثم صارت مؤلفاته للإسلام بالقرائن العلمية، فقد أراد بحماسته أولاً لدينه (المسيحية)، أن يقتنص كل مسلم يأتيه للعلاج، ليشككه في دينه، فإذا به بعد حديث مع الملك فيصل رحمه الله، عندما جاءه للعلاج يتغير في نظرته.
فقد قال له الملك فيصل: هل قرأت القرآن باللغة العربية؟ قال: لا. فأجابه بقوله: اذهب وتعلم العربية، ثم اقرأ القرآن بها، وناقشني بعد ذلك فشعر بالتحدي فعكف عامين كاملين على دراسة اللغة العربية ليلاً ونهاراً، فوجد القرآن وما فيه، من نظرة للإنسانية والعلوم ومخاطبته للعقول، يختلف عن الترجمات، فأسلم وصار بعد ذلك داعية للإسلام، لما فيه من أسرار للنفس. والشيخ الهلالي كان هو المترجم للملك فيصل قبل إسلام بوكاي وكان كما قال الدكتور محمد تقي الدين الهلالي، رحمه الله، (ينظر مقاله في مجلة البحوث الإسلامية العدد 17).