في أحد ثنايا ذلك المشفى اتجهت مسرعة إلى قدر لم يحدد بعد، ومازال وقع كلمات ذلك المتصل تتلاعب عابثة بما تبقى لديها من عقلانية!!
قبل ساعة تقريباً في أحد الأحياء وبالتحديد «عمارة أبو عبد الكريم» كما يطلق عليها أهل الحي، يتمرد ذلك الضجيج خارج أسوار تلك الشقة الصغيرة، أمام شاشة البلازما ذات الخمس والخمسين بوصة، يتمايل جسدها بعنفوان وهي تلعب الفيديو قيمز، تقطب حاجبيها وتتمتم «اغلبيه أسيل اغلبيه»، تلتهم قطعة البيتزا بنهم وعيناها اللوزية لا تفارق الشاشة، تبعد خصلاتها الغجرية وهي تنظر لساعة الحائط بقلق « لماذا تأخرتْ، أوجدت عملاً في الفترة المسائية مرة أخرى « رن الهاتف مقاطعاً تساؤلاتها، في الحقيقة هي لم تسمعه بل ذلك الوميض الأحمر نبهها لذلك ابتسمت موقنة أنها فيروز أو جارتهم أم سلمى تتشكى من تصرفات أسيل المدللة الطائشة كالعادة ظناً منها أن فيروز قد عادت..
أسيل: آلو..
أجابها المتصل بصوته الأجش: منزل «فيروز أحمد سامي...» ؟؟
أجابته وارتعاش صوتها لا يخفى عن مسامعه: نعم، ومن أنت ؟؟
رد غير آبه لكلماته التي ستفتك بها حتماً: تعرضت ابنتكم لحادث سير، وهي الآن في مشفى العاصمة المركزي.
تسللت أناملها لصدرها متلمسة قلبها المعتق بالحطام، ها هي الأقدار تكشف عن مخالبها لجعلها يتيمة مرة أخرى، اتجهت لقسم الطوارئ وهي تتقدم بخطى متثاقلة متجاهلة التعليمات لدخول تلك الغرفة المشئومة، تسارعت أيدي رجال الأمن والأطباء لردعها صرخت بنحيب مؤلم:
« اتركوني إنها أختي..، حبيبتي بالداخل ألا تسمعون ؟؟.. عائلتي كلها بالداخل «
نظرات المارة امتلأت بالشفقة، والمقاعد انحنت أمامها عاجزة، طعنوا ذلك المهدئ بأوردتها وكأنهم ينتقمون لما سببته من فوضى، بدت حواسها بالضمور مخبئة آثار نزع عنيف بداخلها.
مر شهر، وهي تسمع من الطبيب العبارة نفسها كلما زارت فيروز» لا أمل لها في الشفاء، ستظل هكذا تحت تأثير الأجهزة فقط، عليكم بالدعاء « دخلت حاملة باقة الزهور، همت تبدلها بتلك التي ذبلت، تتنقل عيناها في الغرفة، لا شيء سوى سرير أبيض يكتنف فيروز بين أحضانه وأجهزة مختالة لعينة، وزخات مطر متغطرسة تحاول خدش زجاج النافذة، بابتسامة صفراء ذابلة « فيروز هطل المطر ألا تريدين أن تريه ؟؟ هيا استيقظي..، حتى أني لم أسرح شعري انتظرك لتسرحيه لي، بربك ألم تسأمي من هذا الموت ؟! « أصبحت تود تجربة شيء لم يصل إليه العلم بعد، كالمعجزات، أو كما يحدث في الأساطير، شيئاً كتبادل الأرواح عند نزول المطر، أو أن ترزق بموت جميل، فلم تعد تحتمل هذه الطقوس الحزينة، ولم يعد بإمكانها احتساء هذه الأحداث المريرة، وسماع معزوفة الاحتضار، وسط تلك الأمنيات، ماتت أسيل...
* طالبة - الثانوية (40)