إن ما أكدته المملكة العربية السعودية من وحدة وتكاتف وتلاحم وتراحم - قيادة وشعباً - في الأيام الماضية فهو وإن كان مشهداً استثنائياً في العالم فإنه لم يكن استثنائياً في المملكة نفسها، وهذا يعرفه كل من يعرف المملكة وبلا شك أن ذلك من فضل الله تعالى أولاً وأخيراً، بَيْد أنه يجب على أهل العلم والفكر والثقافة أن يحللوا هذا الواقع ويقرؤوه مستفيدين من معطياته وأن تكون القراءة قراءة كلية تربط بين الجزئيات وتسلسل الحوادث وتصنع من المجموع استقراء يعطي النتائج الصحيحة ونبتعد عن القراءة (الذرية) التي تنشغل بالجزئيات عن الكليات وتضيع في التفاصيل عن ما يربط ما بينها ويصنع منها وحدة متكاملة.
إن ما تشكل في المملكة من هذه الصورة الصامتة التي تنطق بأشياء كثيرة تعزُّ على رسم فنان وتتعلّى على خيال شاعر فإن مردها بعد توفيق الله تعالى إلى أمرين أساسين:
الأول: العمل بالكتاب والسنة فإن المملكة قائمة على هذين المصدرين دستوراً ودولة قيادة وشعباً ومظاهر الحياة في المملكة تؤكد ذلك كما أن التشريعات والمراسيم دوماً تنبثق من هذين المصدرين العظيمين.
وبهذا الأصل الأصيل افتتحت هيئة كبار العلماء بيانها الأخير بالإشارة إليه حين حمدت الله سبحانه بما منَّ به على المملكة العربية السعودية من اجتماع كلمتها وتوحد صفها على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في ظل قيادة حكيمة لها بيعتها الشرعية.
ولئن كان الاعتصام بالكتاب والسنة له أثره الحميد والكريم في كل وقت وعلى كل حال فإن أثره الفعّال يبرز حين احتدام الأمور وبزوغ الفتن فإن الاعتصام بهما يعصم - بإذن الله - من الانزلاق في الفتن والانجرار وراء قالة السوء وهذا سبب مهم، بل هو السبب الرئيس لما شهدته المملكة من الوحدة والتآلف في هذه الظروف الدقيقة وهو في الحقيقة ليس وليد اللحظة، بل هو خُلق تربى عليه شعب المملكة وورثه الأبناء عن الآباء وأصبح خُلقاً وعادة مستحكمة.
وقد صرحت الهيئة وبوضوح أن المملكة ومع تقدمها وتطورها وأخذها بالأسباب الدنيوية المباحة فقد حافظت على هويتها الإسلامية وأنها لم ولن تسمح بحول الله وقدرته بأفكار وافدة من الغرب أو الشرق تنتقص من هذه الهوية أو تفرق هذه الجماعة.
وهذا التصريح في البيان جاء ليؤكد ما تتمتع به بلاد الحرمين من أصالة ومعاصرة، فلا أصالتها منعتها من تقدمها، ولا تقدمها أفقدها أصالتها وهي بذلك تقدم للعالم الإسلامي تجربة ناجحة تستحق الدراسة والاقتداء.
الثاني: خدمة الحرمين الشريفين فإنه لا يخفى ما تقدمه المملكة من جهود جبارة للحرمين الشريفين توسعة وخدمة ومشاريع وغير ذلك حتى قرت عيون المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بمهوى أفئدتهم وقد أصبحا جوهرتين تنيران الكون بناء شامخ ونظافة تلمع وسبل ترصف وتيسر ونزلاً تُهيأ وتعمر وقد اكتسبت المملكة بذلك مزية وأجراً فإن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وفي مثل هذه الظروف تتبدى بركة خدمة الحرمين، ولهذا فإن إشارة الهيئة في بيانها إلى هذه الخدمة لم تأت من فراغ حين قالت: (وإن من نِعم الله تعالى على أهل هذه البلاد - حكاماً ومحكومين - أن شرفهم بخدمة الحرمين الشريفين اللذين وله الحمد والفضل سبحانه ينالان الرعاية التامة من حكومة المملكة العربية السعودية عملاً بقوله سبحانه: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (125) سورة البقرة، وقد نالت المملكة بهذه الخدمة مزية خاصة في العالم الإسلامي، فهي قبلة المسلمين وبلاد الحرمين، والمسلمون يؤمونها من كل حدب وصوب في موسم الحج حجاجاً وعلى مدار العام عُمّاراً وزواراً).
إذن فهذان أمران أساسان لما تشهده المملكة وعبر تاريخها وإلى الآن وستبقى على ذلك - بإذن الله - من التآلف والتلاحم والتراحم.
ويمكن لنا أن نشرحه بطريقة أخرى، إذ إن هذا التصرف الراشد من الشعب السعودي الكريم الذي لطم به رؤوس الفتنة حتى ارتدوا خائبين خاسرين مرده بعد توفيق الله إلى الوعي الشامل والكامل وهذا الوعي يُفصّل إلى الآتي:
1 - الوعي الديني: فالمسلم في هذا الوطن متمسك بدينه وعقيدته ومدرك لما يجوز وما لا يجوز وهو أيضاً على اطلاع تام على العقيدة السلفية التي من أصولها لزوم الجماعة والسمع والطاعة في المعروف وقد وفقت هيئة كبار العلماء غاية التوفيق حين أشارت في بيانها إلى هذا الأصل الأصيل والركن الركين من عقيدة السلف الصالح فسطّرت بمداد من نور كلماتها التي قالت فيها: (وإن المحافظة على الجماعة من أعظم أصول الإسلام وهو مما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه العزيز، وعظم ذمّ من تركه إذ يقول جل وعلا: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}) (103) سورة آل عمران.
ومن جهة أخرى فإن الشعب في المملكة قد اختار هذا الدين الإسلامي منذ فجر التاريخ طواعية واختياراً بلا إجبار أو إكراه ولذلك فلا تزيده - بإذن الله - الحوادث إلا قوة ورشداً وقد دلت قوانين التاريخ ونواميسه من خلال فلسفته التي اطلعنا عليها على أن الشعوب التي تعتسف على بعض العقائد الدينية منها والوضعية فإنها تكون في مهب الريح وتنقلب على أنظمتها عند أول هزة وحين أول فرصة.
2 - الوعي الوطني: المملكة تأسست إثر ملحمة وطنية هي في حساب الدين جهاد مبارك وهي في قياس التاريخ منجز استثنائي أو قل: منعطف تاريخي فجمع الله أشتات الجزيرة في كيان واحد آمن متعاون استظل بخيره الجميع.
ولذلك فالمواطن في المملكة يدرك جيداً مقدار هذه النعمة ويعرف أنه يعيش في بلاد أشبه ما تكون بقارة مترامية الأطراف وأن نعمة وحدتها تُعتبر أهم منجز تحقق للوطن ومهما بلغت المشاريع الوطنية والتنموية من أهمية فلن تصل إلى عشر معشار منجز الوحدة الوطنية، وبالتالي فيستحيل على شعب له هذا الوعي الوطني أن ينزلق - لا سمح الله - إلى أي فكرة تضر بوحدته وتخالف ما قامت عليه شريعته.
وكانت هيئة كبار العلماء مدركة هذا الوعي مؤكدة عليه بقولها: (وما عظمت الوصية باجتماع الكلمة ووحدة الصف إلا لما يترتب على ذلك من مصالح كبرى، وفي مقابل ذلك لما يترتب على فقدها من مفاسد عظمى يعرفها العقلاء في القديم والحديث. ولقد أنعم الله على أهل هذه البلاد باجتماعهم حول قادتهم على هدى الكتاب والسنة لا يفرق بينهم ولا يشتت أمرهم تيارات وافدة، أو أحزاب لها منطلقاتها المتغايرة امتثالاً لقوله سبحانه: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}) (31 -32 ) سورة الروم.
3 - الوعي السياسي: فالإنسان في هذا الوطن يدرك موقعه في العالم، ولديه المعرفة الكافية بأنه يعيش في منطقة حساسة هي محطُ أنظار العالم أجمع وهي محل أيضاً شدّ وجذب، ويتابع ما تقوم به قيادته الحكيمة من جهدٍ مضنٍ في السير بالبلاد إلى المرفأ الآمن في ظل هذه الظروف الدقيقة والمضطربة، ولا يخفى عليه أبداً مطامع الأعداء وتربص الكائدين وأن سرَّ سقوط مشاريعهم العدوانية الواحد تلو الآخر هو بعد فضل الله تعالى حنكة قيادته والتفاف الشعب حول ولاة أمره وهذا الذي يزيد حقد الأعداء حتى فضحوا أنفسهم وجاهروا بما تنطوي عليه صدورهم من الحقد والغيظ الآثم العدواني ولهم ولمثلهم يُقال: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (119) سورة آل عمران.
وقد توقفت الهيئة عند هذا الوعي السياسي إذ قالت: (وهيئة كبار العلماء إذ تستشعر نعمة اجتماع الكلمة على هدي من الكتاب والسنة في ظل قيادة حكيمة، فإنها تدعو الجميع إلى بذل كلِّ الأسباب التي تزيد من اللُحمة، وتوثق الألفة، وتحذر من كل الأسباب التي تؤدي إلى ضد ذلك).
ثم قالت: (كما تحذِّر من الارتباطات الفكرية والحزبية المنحرفة، إذ الأمة في هذه البلاد جماعة واحدة متمسكة بما عليه السلف الصالح وتابعوهم وما عليه أئمة الإسلام قديماً وحديثاً من لزوم الجماعة والمناصحة الصادقة، وعدم اختلاق العيوب وإشاعتها، مع الاعتراف بعدم الكمال, ووجود الخطأ وأهمية الإصلاح على كل حال وفي كل وقت).
ومن هذا الوعي السياسي وهو وعي ديني أيضاً بالمقام الأول ما جاء في آخر بيانها: (وبما أن المملكة العربية السعودية قائمة على الكتاب والسنة والبيعة ولزوم الجماعة والطاعة، فإن الإصلاح والنصيحة فيها لا تكون بالمظاهرات والوسائل والأساليب التي تثير الفتن وتفرِّق الجماعة، وهذا ما قرره علماء هذه البلاد قديماً وحديثاً من تحريمها، والتحذير منها).
إن الوعي التام بحول الله وبعد توفيقه صمام أمان يحول دون الانزلاق إلى الفتن والاضطرابات ولهذا قرر بعض من كتب في التاريخ السياسي أن الإنجليز كانوا أبعد الشعوب الأوربية عن الحركات الثورية بسبب خبرة الإنجليز السياسية بالآثار المدمّرة لهذه الحركات.
والوعي ليس هو العلم، بل هو فوق ذلك تعقل الأشياء وإدراك أبعادها ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: (فصلاح القلب وحقه الذي خلق من أجله هو أن يعقل الأشياء لا أقول أن يعلمها فقط... والذي يعقل الشيء هو الذي يقيده ويضبطه ويعيه ويثبته في قلبه، فيكون وقت الحاجة إليه غنياً فيطابق عمله قوله، وباطنه ظاهره، وذلك هو الذي أوتي الحكمة {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (269) سورة البقرة، وقال أبو الدرداء: إن من الناس من يُؤتى علماً ولا يُؤتى حكماً وإن شداد بن أوس ممن أُوتي علماً وحكماً).
ولقد أحسن الشاعر الذي قال:
وسورة علم لم تسدَّد فأصبحت
وما يتمارى أنها سورة الجهل
وأحسن الناثر الذي قال:
لا تسمو حياة الفرد إلا إذا كان جزءاً من كل، ولا يجتمع الكل إلا إذا كان تاماً فيما هو كلّ به.
د. فهد بن سعد الماجد -* الأمين العام لهيئة كبار العلماء