من الواضح أن الولايات المتحدة وفرنسا تعملان على خارطة جديدة في المنطقة العربية، وقد بلورت مؤخراً وبسبب تداعيات تونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها من دول المنطقة، سياسات خارجية جديدة مبنية على أساس دغدغة مشاعر الشعوب، والضغط على الأنظمة العربية القائمة..
وربما تهدف من ذلك إلى رسم خارطة مصالح جديدة، وركوب موجة التظاهرات الشعبية التي بدأ استنساخها من مكان إلى مكان، وزرعها في دول ومجتمعات جديدة.. وهكذا حتى يتم ترتيب خارطة المنطقة وفق مصالح كبرى عالمية..
وضع المنطقة العربية بدأ يتأرجح بين تظاهرات عفوية ومصالح محلية وبين مصالح عظمى تحوم في المنطقة، ولكن جرت العادة من تجارب الأشهر الماضية أن تقفز الدول العظمى على هذه التحركات المحلية، وتغذيها بقيم، وأفكار، وقنوات، وبرامج عمل من أجل أن تستحوذ عليها بالكامل وفق الأجندة الخاصة التي تتفق مع مصالح الدول الغربية العظمى بالدرجة الأولى..
ومع التحولات السياسية التي جابت المنطقة بدأت الولايات المتحدة وفرنسا بالتحديد تكشر عن أنيابها، وتتجه إلى الجماهير في مد يد العون، وتقديم المساعدات وتجييش الشعوب ضد الأنظمة، وتحويل العالم العربي إلى عالم متحرك غير مستقر وغير مدرك لتبعات هذه التحولات وفق هدف محوري يتمثل في أن المتظاهرين في نهاية الأمر سيكونون أسرى لمن يقدم لهم العون، ويمدهم بالكلمة والإعلام والدعم المعنوي، وفي حالات أخرى بالسلاح والقوة.. فلربما أن الحشود الجماهيرية ستتربى في كنف من يدعمها ويسير معها ويعلن ولاءه لها.. وهذا ما حاولت قوى داخلية وخارجية في بعض المجتمعات أن تركب موجة الجماهير لعلها تحظى بتأييد سياسي أو دعم لوجستي أو تصويت لحزب أو شخصية أو ولاء لفكر أو مؤسسة أو دولة عظمى..
إذن ما يدور حالياً في أروقة الاستخبارات والمؤسسات السياسية في فرنسا والولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية هي لعبة جماهير، وقواعد التلاعب بالنفسيات، والتأثير على مجريات الأحداث من واقع الكلمة والرمز والفكر والقيمة الاجتماعية، ومحاولة محاكاة هموم الداخل ومتطلبات الشعوب والوقوف ضد مبادئ عامة تتجسد في رفض الدكتاتوريات، واستئصال الفساد وغيرها من القيم الإنسانية التي لا يختلف عليها اثنان أو يعارضها إنسان..
ومن المعروف أن من يقرأ طبيعة وحراك الجماهير من تجربة الدول العربية في الأشهر الماضية يلاحظ أنها كانت عرضة للاستغلال والتوظيف والتوجيه والتلاعب، وكل شخص أو مؤسسة أو دولة تحاول أن تبحث لها عن مكان، وتحاول أن تحتل لها مساحة، وتضع نفسها في فراغ متاح قابل للتحول أو التوظيف بشكل مناسب.. وهذا ما تحاول عدد من الدول والمؤسسات أن تقوم به، وبخاصة بعض الدول الكبرى.. فالأمور تقاس لديها بمصالحها الآنية ومصالحها الإستراتيجية بعيدة الأمد..
كما لا نريد كذلك أن نتحدث عن الحسابات السياسية الداخلية في الدول العظمى مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها، فهناك حسابات دقيقة للانتخابات القادمة، أو لإعادة توجيه الرأي العام، أو لفقدان الشعبيات السياسية ومحاول العودة إليها من خلال التعاطي مع ملفات تبدو تحت نطاق النجاح المتوقع.. وهذه الأمور لعبت دوراً مهماً فيما مضى وفيما سيمضي من تداعيات سياسية داخلية في مجتمعات الدول العظمى..
ولاشك أن الحالة الليبية شكلت منعطفاً مختلفاً عما كانت تتمناه الدول العظمى في توالي أحداث المنطقة.. فقد اضطرت هذه الدول إلى التدخل العسكري لاستمرار حركة الموجة التظاهرية.. ومحاولة إعادة مسيرة التغير كما تتمناه الدول العظمى، أو كما تريده في خدمة مصالحها الكبرى في المنطقة والعالم.. ولم تكن ليبيا كما كانت مصر وتونس، وهج إعلامي بدون تضحيات مادية أو عسكرية من قبل الدول العظمى.. فما كان لهذه الدول في الحالة التونسية والمصرية سوى مجارات الفيس بوك في مصر وتويتر في تونس بشكل عام، وتوجيه الجماهير إلى هاتين الوسيلتين لأخد التوجيهات منهما.. أما ليبيا فقد أحدثت الفرق والتضحيات وألغت مسار التغير الياسميني في تونس، وبهجات التحرير الطقوسية في مصر.. وصنعت نموذج العنف والدم والإزاحات السياسية الصعبة.. وكان لابد أن تتعايش الدول العظمى مع هذه الحالة..
خارطة الشرق الأوسط التي رسمتها دول عظمى هي جديدة في تعديلاتها الأخيرة، وهي خارطة مفتوحة، قابلة للتعديلات حسب تطورات الأوضاع، وحسب قدرة الدول العظمى في إدارة الأزمات، وتوظيفها ما يخدم بالدرجة الأولى مصالحها في المنطقة ويحقق أهدافها البعيدة والقريبة.. وغرف إدارة الأزمات التي باتت من أولويات وزارات الخارجية وأجهزة الاستخبارات الغربية باتت مشغولة على مدى الأشهر الماضية في رسم صور وخرائط للمنطقة، وأغرقت في التحليلات، وبنت سيناريوهات متعددة حتى تصل إلى رؤية احتمالية لما قد يحدث في المنطقة.. كما أنه من الواضح أن الدول الغربية العظمى قد وضعت خيارات إستراتيجية لدعم التحولات في بعض الدول العربية على الأقل. وفي المقابل، فإن الأنظمة السياسية العربية وغيرها من أنظمة في مناطق أخرى في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية قد أعادت النظر في علاقاتها الإستراتيجية والتحالفات العسكرية مع الدول العظمى، واكتشفت أن نظام الحماية الذي كانت تتشدق به الدول العظمى قد سقط دون رجعة.. فلم تعد الأنظمة العربية في ظل حماية الأساطيل والقواعد العسكرية كما كان يشاع من قبل، بل هي كانت ولا تزال في حماية المواطنين والجماهير الذين يشكلون القاعدة الأولى والمرتكز الأساس لحماية النظام السياسي والمجتمع..
* * *
(*)
المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية، أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود