يتذمر كثير من الطلاب وأولياء أمورهم مما يسمى (اختبارات القياس) التي فرضت مؤخراً عليهم، وتحدد في الغالب مستقبل فلذات أكبادهم بشكل وقتي ومصيري. ومصدر الشكوى هو أن هذه الامتحانات قد لا تتوافق مع نتائج الثانوية العامة التي تعكس ثلاث سنوات من التعب والكد والتحصيل والتقويم.
ومن منطق القياس ذاته فإن التعارض بين نتائج الثانوية العامة واختبارات القياس لا بد أن يعكس عدم دقة أحدهما.
فكرة القياس لمن لا يعرفها ليست وليدة الساعة بل هي قديمة وتعود لأوائل القرن السابق في بداية تكوين الولايات المتحدة الأمريكية في فيدرالية واحدة، حيث سعت الحكومة الفيدرالية للتقريب بين نتائج قبول المدارس الثانوية في الولايات المختلفة المتباعدة، فأقرت ما يسمى «اختبارات القدرات الدراسية»Scholastic Aptitude Test (SAT). وقد دعم هذا التوجه نظرة تربوية ونفسية سائدة في ذلك الوقت تستند إلى أن الفوارق بين البشر والطلاب هي فوارق وراثية، وبيولوجية، أي أن الذكي ذكي بالفطرة ومثله الغبي، فظهرت أيضاً اختبارات الذكاء التي تستند إلى نظرة مشابهة كانت مقبولة آنذاك واستند إليها من رفضوا الاختلاط العنصري في المدارس الأمريكية. وقد ثبت خطأ هذه الفرضية، وثبت أن للبيئة تأثيرا كبيرا على قدرات الأفراد وذكائهم. بل إن البعض شكك في وجود مفهوم واحد محدد لذلك المفهوم المسمى «ذكاء» أو حتى قدرات.
وأعاد انتشار المدارس الأهلية وتنوعها، وظهور أنواع التعليم الأخرى كالتعليم عن بُعد أو بالمراسلة أو التعليم المفتوح الخ.. الأهمية لمثل هذه الاختبارات. أما في المملكة العربية السعودية فقد نشأت فكرة هذه الاختبارات قبل عقد ونيف نتيجة خلاف بين بعض الجامعات السعودية ووزارة التربية والتعليم حول دقة نتائج الثانوية العامة، خصوصاً نتائج بعض المدارس الأهلية أو بعض المدارس في الأرياف، حيث قد لا تعكس النتائج المستوى الفعلي للطالب فتم اقتراح اختبارات للقياس، واقتراح إنشاء مركز للقياس الوطني. ثم أخذ المركز شكله الحالي كمؤسسة وطنية غير ربحية تختبر جميع خريجي الثانوية العامة ولأكثر من مرة إذا لزم الأمر مقابل 100 ريال رسم لكل طالب.
وتعرضت اختبارات القياس في الولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً لكثير من النقد من قبل كثير من التربويين الذين شككوا في المبالغة في مستوى دقتها، أو حتى قيمتها التربوية ذاتها. فقد أثبتت دراسات حديثة، اعتمدت على متابعة سير الدراسة الجامعية لبعض من أخذوا امتحانات القياس، أن عامل الارتباط Correlation بين نتائج الاختبارات والنجاح في الدراسة، أو تحديد التخصص الجامعية ضعيف جداً إن وجد. أي أن الدرجات العالية في القياس لا تعني بالضرورة مناسبة الطالب للدراسة الجامعية الدقيقة التخصص أو تلك التي تحتاج إلى مهارات خاصة. كما أن هناك عوامل أخرى غير علمية، وغير تحصيلية تؤثر على أداء الطالب في هذه الاختبارات منها، القدرة على تحمل ضغط الاختبارات stress factor. واتضح أيضاً أن الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة المعتمدة على ما يسمى المشتتات والاختيارات في الإجابة تخضع لمهارة خاصة وعوامل أخرى غير موضوعية، منها الألفة familiarity والتدريب training، وهي لا تصلح لقياس مهارات أخرى مهمة مثل التأمل، أو التفكير النقدي، أو الإبداعي، أو القدرة على الكتابة والتعبير. أي أنه في المحصلة النهائية فإنه لا يمكن الحكم على مستقبل طالب، أو تحديد مساره من خلال أدائه في ساعة أو ساعتين من الاختبار. وحتى لا نظلم القياس، أو المتحمسين له، فيمكن القول إن لهذه الاختبارات فائدة محدودة لكن ليس بالشكل الذي يعول عليه البعض.
وبناء عليه، فقد لا يعترض أولياء أمور الطلاب على القياس كمفهوم، ولا كاختبار يحد جزئيا من نسبة قبول أبنائهم، لكنهم يعترضون على تخصيص نسبة 70% من القبول في الجامعات له وهو مجرد اختبار لساعتين أو ثلاث فقط، بينما يخصص للتعليم الثانوي، الذي هو تقويم لمدة ثلاث سنوات، 30% فقط. فالاختيار، بهذا الشكل والنسبة، قد يعفي الجامعات من مسؤوليتها فيما يتعلق بصداع المفاضلة بين الطلاب، ويسهل عملية قبولهم وفرزهم، لكنه قد لا يضمن فعلياً الاختيار الأنسب للمتقدمين في المجالات المختلفة فيها. فقد يرى المسؤولون إعادة النسبة والتناسب بهذا الخصوص، ليس فقط لإعادة الثقة في اختبارات الثانوية العامة، ولا لتخفيف حدة استياء أولياء أمور الطلاب، لكن أيضاً لتطوير الجامعات ذاتها. فالاختبار في حقيقة الأمر قد يستحق 30% في المائة على أكثر تقدير تقريبي.
ويعتمد اختبار القياس على أسئلة لها خيارات، هي في الغالب أربعة، توضع على شكل مشتتات متقاربة يتم الاختيار منه بقلم الرصاص ويتم تصحيحها بأجهزة تسمى «قارئات العلامات البصرية» Optical Marks Readers ، يتم تقديم الأجوبة النموذجية لها فتطابقها اليكترونياً مع العلامة التي وضعها الطالب على الورقة فتصححها بعدها. وهذه الأجهزة، علاوة على كونها رخيصة الثمن نسبياً، قادرة على تصحيح آلاف الأوراق في وقت قصير، وتقدم تقارير إحصائية فورية عن إجابات الأسئلة يأخذها المختبرون كقياس لهم على مدى صعوبة وسهولة الأسئلة، ومن ثم تصنيفها.
وقد زادت المطالب مؤخراً بإلغاء مثل هذه الأسئلة في الولايات المتحدة الأمريكية عندما أخطأ أحد الأجهزة نتيجة لخلل فيه في نتائج المختبرين، وترتب على ذلك فوضى كبيرة في النتائج لم يتم اكتشافها إلا بعد وقت طويل.
فتكلفة تقديم الاختبارات وتصحيحها ضئيلة جداً، إذا ما خصمنا تكلفة إعداد الأسئلة التي يعاد استخدام الكثير منها؛ لذلك طرح المدعى العام في ولاية «أياوا في» عام 2007م قضية كبرى في محاكم الولاية ضد مؤسسة اختبارات قبول الجامعات الأمريكية ACT Inc، تتعلق بوضعية مؤسسة القياس الأمريكية «غير الربحية» بعد أن قدمت المؤسسة تعويضات ضخمة جداً لمديرها ريتشارد فيرجسون وأعضاء مجلس إدارته. وطالب المدعي العام لتحويلها لمؤسسة ربحية تنطبق عليها الأنظمة التي تنطبق على المؤسسات التجارية. فكون المؤسسات غير ربحية لا يعني أن دخلها ضعيف أو أنها لا يجب أن تخضع للرقابة الوطنية.
ومركز القياس الوطني في المملكة يقدم خدمات جليلة ليس للتربية والتعليم فقط، بل لمعظم الوزارات والمؤسسات الحكومية، وشبه الحكومية التي استسهلت نقل عبء مسؤولية المفاضلة بين المتقدمين لها إلى جهة أخرى قد لا تكون خبيرة بمجال عملها. وعملياً ومن واقع التجربة يمكن أن يكون لكل جهة حكومية مركز قياس متخصص مصغر فيها. فأجهزة القياس لا تكلف أكثر من خمسين ألف ريال للجهاز، وخمسة آلاف أخرى للطابعة، وبعض المكافآت لواضعي الأسئلة.