تبدو المنطقة العربية والدول المحيطة بها في الإقليم الكبير كما في العالم الواسع وكأنها منهمكة في إعادة تعريف دورها ووظائفها، في اعتراف جلي بضرورة تأقلمها مع واقع يتشكل فيها، يختلف في جوانب كثيرة منه عن ذلك الذي قام إلى البارحة، وما زال وجوده فيها ملموساً في مناطق كثيرة.
هذه الحركة الدائبة، التي نلاحظها في سياسات الدول المختلفة، وجوهرها التكيف مع واقع عربي متغير، هي السمة البارزة للأشهر الأخيرة، وستكون سمة السنوات القادمة أيضا، ف»الثابت» العربي يتغير، وبتغيره لا بد أن تتغير جميع وقائع وخيارات المنطقة، التي كان غائباً أو مغيباً عنها، وأن ترسم سياساتها على هذا الأساس الجديد، الذي يستعيد مكانة العرب في الأحداث، بل ويصنع الحدث الكبير، لأنه هو الحدث الكبير، الذي سيخسر من يتجاهل نفوذه ودوره ومكانته في عالمنا العربي، ومعه الكثير داخل إطاره الوطني الخاص.
ولعل الحركة الأبرز تتجلى في الحيرة التي تنتاب الدول الإقليمية، التي لا تعرف بعد كيف تقدم قراءة واضحة أو ثابتة لما يجري. وتبدو هذه الحيرة بصورة خاصة في موقف العدو الإسرائيلي، الذي صدرت عنه تصريحات متناقضة خلال يومين متتاليين، عندما قال رئيسه بيريز في واشنطن إن ما يحدث في العالم العربي إيجابي ويجب تشجيعه، وبعد ساعات قليلة رد عليه نتنياهو معبراً عن قلقه الشديد لما يحدث، ومعترفاً بأن «إسرائيل» تخشى نتائجه على الغرب وعليها، وأنها لا تملك بعد قراءة لأبعاده. بينما أصابت الحيرة ذاتها طهران، التي سارعت أول الأمر إلى محاولة وضع يدها إعلامياً على الحراك، ثم بدأت تطلق تصريحات متناقضة تدل على الارتباك وقلة الصبر، والشعور بالضيق لكون ما وقع لا يتفق مع تصورها لمجريات التطور في الوطن العربي والإقليم من جهة، ولا يعزز قدرتها على لعب الدور الأول فيهما، وقد تنعكس نتائجه السلبية على داخلها المضطرب، الذي يبدو أنه لم يصل بعد إلى شكل نهائي يمكن للقادة في طهران الركون إلى ثباته واستمراره. بالمقابل، تلعب تركيا دوراً يشوبه قدر غير قليل من البلبلة، يفتقر إلى الاتساق في مناطق الأحداث المختلفة، فهو هنا مع التغيير وهناك متحفظ حياله أو ضده. ولعل الحركة التركية النشطة تبرز جلية في مواجهة الجمود الإيراني والعدوانية الإسرائيلية، فكأنما تعتقد أنقرة أن دورها سيكون من الآن فصاعداً إلى اتساع مضطرد، وأنه سيكون الأول والأهم في شؤون وشجون المنطقة العربية والإقليم، وسيقوم على احتواء النفوذ الإيراني، بعد أن كانت طهران ترشح نفسها لهذا الدور، وتبني حساباتها عليه، وتريد احتواء أدوار الجميع أو تحييدها، فلا خطأ في القول: إن أوزان التشكل الإقليمي تتغير، ومواقع الدول فيه تتبدل، والغموض الذي يسم المواقف العربية في بلدان مختلفة ينعكس غموضاً أشد على مواقف الدول الإقليمية، التي يرجح أن يخرج بعضها من النظام الراهن وينطوي على نفسه، ويندفع بعضها الآخر -العدو الإسرائيلي- إلى إعاقة تشكل وحتى كسر أي نظام جديد قد ينجم عن رجوع العرب إلى مكان مقرر من شؤون وطنهم الخاص، بينما يعارض غير العرب انتزاع الأوراق، التي كانوا قد استولوا على بعضها خلال العقدين الماضيين، واستخدموها لخدمة مآربهم الخاصة، وليس لخدمة المصالح العربية أو الفلسطينية، رغم ما كانوا يقولونه عن الأخوة والمصالح المشتركة.
ولعل ما وقع في بعض المناطق بالتحديد كاليمن والبحرين يقدم صورة جلية عن تبدل الظروف والأدوار المحلية والإقليمية. ربما كانت البحرين آخر مناطق التقاطع والافتراق بين الوقائع الجديدة والقديمة، والأدوار العربية والإقليمية، كما أنها قد تبقى لبعض الوقت بؤرة توتر تحول دون الخروج منه رغبة بعض الجوار في عدم التخلي عن حقه في الوصاية والتدخل في شؤون الدول العربية عامة ودول الخليج خاصة، واعتقاده أن بوسعه تمرير مصالحه ومطامحه تحت بند الثورة والتغيير، بعد أن كان يعمل على تحقيقها من باب التعاون التكامل والأخوة. وزاد من توتر هؤلاء بروز دور دول مجلس التعاون في الأزمة البحرينية الأخيرة، والدور التركي، وموقف بعض الحلفاء العرب (سوريا على سبيل المثال، التي أيدت دول مجلس التعاون الخليجي فيما فعلته للبحرين) من الأزمة، ووضع المشكلة على سكة حل مختلفة عن تلك التي كانت تريدها طهران، مما شجع الصحافة المحلية والعالمية على اعتبار ما جرى في المنامة هزيمة لإيران ردت عليها بتصريحات نارية واعتراضات تدخلية كان آخرها ما صدر عن رئيس أركان جيشها، الذي صعّد القول كثيراً ونقله إلى مجال تهديدي يرشح الوضع لمزيد من التفاقم والتوتر، على مستوى الإقليم وعلاقاته، فإذا أضفنا إلى ذلك ما حدث في الكويت، تبين لنا أن المشكلة الإيرانية هي مع النهج السياسي الإيراني المعتمد حيال الجوار قبل أن تكون مع العرب، وأن التغيير المطلوب هناك وليس هنا، ذلك أنه ليس من الخطأ أن يمنع العرب غيرهم من التدخل في شؤونها لأي سبب كان، وأن من يتبنى نهجاً خاطئاً عليه التخلي عنه إذا لم يتفق مع الوقائع، أو تخطاه التطور.
تتشكل مواقف جديدة في الوطن العربي، رسمية وشعبية، تشي بعودته التدريجية إلى الوعي، الذي كان قد غاب عنه خلال فترة ليست بالقصيرة، وبضرورة أن يراجع جيرانه مواقفهم منه أو يعملوا بالتعاون معه خدمة لمصالح مشتركة لطالما تم التنكر لها، هنا أو هناك. هذا ما عنيته بالظروف المختلفة، التي جعلتها عنواناً لهذا الحديث. وعلى العموم، فإن أعظم ما قد يقترفه المرء من أخطاء هو عجزه عن مواكبة تغير لا يستطيع منع وقوعه ولا يعرف كيف يكيف نفسه معه، دون أن يرى في نفسه مركزاً له أو يسعى إلى فرض رؤيته عليه. إذا لم تفهم طهران هذه الحقيقة، فإنها ستخسر كل شيء عربياً وإقليمياً، وستدفع ثمن ظروف اختلفت، عالجتها بعقلية تقادمت وفات زمانها، وبينت الأحداث كم كانت خاطئة بالأساس.
يخرج العرب من الوصاية الإقليمية إلى دور جديد هو الذي سيعين أدوار الجميع، تخشى إسرائيل نتائجه التي تشعر بمخاطرها على وجودها، بينما يعيد إيران إلى حجمها الحقيقي كدولة كبيرة ولكن داخل مجالها الخاص، ويربك تركيا، التي تعمل على قبوله والتكيف معه، رغم أنه لم يتضح في كامل أبعاده بعد. هذه هي الظروف المتغيرة، التي لن يكون الحال بعدها ما كان عليه قبلها، ويحسن بنا نحن العرب قبل الآخرين قراءتها بدقة وموضوعية، كي نستفيد منها.