الإنسان هو صانع الحضارة والمستفيد الأول منها، إلا أن المتأمل في تاريخ كثير من الحضارات القديمة وواقع الحضارات الصناعية المعاصرة في الغرب، يجد أن الإنسان البسيط الذي تقوم على أكتافه صروح هذه الحضارات، هو أقل المستفيدين منها، بل وربما تنعدم استفادته منها تماماً.
وفي المقابل نجد الشريعة الإسلامية قد جعلت الإنسان هو هدف الحضارة، وصانعها في الوقت ذاته، حتى الإنسان البسيط الفقير، كفلت له الشريعة الغراء ما يحمي إنسانيته، ويقيها من ذل السؤال ووجع العوز والحاجة، وذلك من خلال أوامر وتكاليف شرعية تجعل لهذا الفقير حقاً معلوماً واجباً في أموال الأغنياء والموسرين التي أنعم الله عليهم بها، أو سنناً مستحبة مندوب إليها، مثل الصدقات الجارية. والوقف أحد أبرز هذه السنن وأعظمها أجراً للواقف، وأكثرها نفعاً للموقوف عليهم، وتنبع مكانة الوقف من أنه عمل اختياري تطوعي يقدم عليه الواقف ابتغاء مرضاة الله، وهو عمل لا ينقطع ثوابه بوفاة صاحبه؛ لأن نفعه يظل جارياً، ومن جوانب أهمية الوقف أيضاً أنه يحفظ للمعوزين من أبناء المسلمين ماء وجوههم، فهم لا يسألون لسد حاجاتهم العاجلة، ولا يخافون انقطاعه مستقبلاً، هذا فضلاً عن تنوع مجالات الوقف بتنوع قناعات واهتمامات الواقفين، ما بين رعاية اليتامى والمعوزين، أو مساعدة طلبة العلم أو بناء المساجد أو الأسبلة أو المستشفيات وغيرها ولأن القناعات والحاجات تختلف من عصر لعصر، يكتسب الوقف أهمية مضاعفة بفعل قدرته على مواكبة المتغيرات وتباين الاحتياجات زماناً ومكاناً.
والمتأمل في تاريخ الحضارة الإسلامية يجد أن ازدهارها ارتبط بازدهار الأوقاف وتنوع مجالاتها، بل إنه في فترات تراجع الحضارة الإسلامية، استطاع الوقف أن يحمي الفقراء واليتامى وطلاب العلم والمرضى من الاضطرار إلى التسول لسد حاجاتهم.
إن الوقف صورة رائعة لإنسانية الحضارة الإسلامية التي قامت على حماية كرامة الإنسان وبتحقيق التكافل والتلاحم بين أغنياء الأمة وفئاتها الفقيرة، وهو أيضاً وسيلة للتنمية المتوازنة التي توظف المال في خدمة القضايا الاجتماعية، دون مَنٍّ أو تفاخر.
علنا ندرك كل جوانب الخير في سنة الوقف، ونجتهد للاستفادة منها في صيانة كرامة الإنسان بسد حاجاته، دون أن يضطر للسؤال، فهذه هي عظمة شريعتنا وأسرار كمالها.