قيل قديماً: (ليس عاقلاً من تحدَّث للناس بما هو معلومٌ لهم بالضرورة) حتى وإن كانت لهذه العبارة استثناءاتٌ وأحوال؛ إلا أن الزمنَ الذي نعيشُه، ونعيشُ أحداثَه المتلاحقة يفرض علينا - ضمن فرائضه - إعادةَ التأمل في معارفنا وتصوُّراتنا و(استراتيجياتنا).. إنْ كان في أمتنا العربية استراتيجيات! يفرض علينا إرجاعَ ساعة التاريخ قليلاً لمزيدٍ من التَّذكُّرِ أولاً، ثم التفهُّمِ والتبصُّر لمجريات الوقائع في الساحة العربية، وآثارها على ساحتنا المحلية.
ما حدث في تونس ومصر، وما يحدث جرَّاء ذلك فيهما، وفي ليبيا واليمن وديارٍ عربيةٍ أخرى هو في الحقيقة (زلزالٌ سياسي) كما وصفه رئيس الحكومة الإسرائيلية في (بدايات) الثورة العربية، والذي أعرب حينَها عن (تفاؤله بما ستؤول إليه الأمور بالنسبة لإسرائيل!).
هذا (الزلزال السياسي) وفي تبعاته: (الاهتزازات الارتدادية) في الفكر والثقافة والاجتماع؛ هو مرحلة مفصليَّة في التاريخ العربي...
وفي أثناء المتابعة لردود الأفعال؛ تفاجئني (تصوراتٌ) بأنَّ ما يجري من حولنا إنما هي ثوراتٌ شعبيةٌ (خالصة) (استقلَّت) فيها الشعوب بأدوار التنفيذ والتخطيط والتهيئة.
خطورةُ هذا التصوُّر الذي يتولَّد في بعض النفوس يكمنُ في ما يولِّد معه من مشاعر الانبهار الذي يؤدي إلى مراحل الانصهار.. الانبهار الذي يُعْمِشُ البصيرة، ويُغيِّب داعيَ الفهمِ والعقلِ والحكمة.. والانصهار الذي يجرُّ إلى أشياءَ من العبث والعجلة والفوضى وتقويض المكتسبات، ويقود إلى التبعيَّة والتقليد الأعمى والانسياق خلف كل داعي، وفي الحديث النبوي الشريف: ((لا تكونوا إمَّعة تقولون إنْ أحسنَ الناسُ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكنْ وطِّنوا أنفسَكم إنْ أحسنَ الناسُ أن تُحسنوا وإن أساءوا أن لا تظلموا)). والناسُ - كما قيل - كأسراب القطا يتبع بعضهم بعضاً.
(المظاهرات والثورات في الوطن العربي) عبارة تظهر علينا حيناً ضمن مطامع السِّياسة ومطامح السَّاسة، وتظهر علينا أحياناً أخرى في سياق المطالب، والرفع السلمي لمظالم الشعوب وإحباطات الإنسان العربي. وتبقى حقيقةُ العبارة ودَلالاتُها بين التجاذبات السياسية، ومناشدات الشعوب.
شعوبُ المنطقةِ العربية - وشبابُ جغرافيَّتنا خاصة - بحاجةٍ إلى مَنْ يكشف لهم كواليسَ المشهد المضطرب. هم بحاجةٍ إلى أحاديثِ الروَّاد وأصحابِ الرأي الناصحين. هم ليسوا بحاجة إلى التحليل والتهويل والظنون؛ بقدر حاجتهم إلى الحقائق، و(تقريبها) لهم. إن كشفَ الحقائق حمايةٌ للشعوب من الإعلام المغرض الذي يصوِّر للحرية أبواباً ظاهرها الرحمة، وباطنها فيه العذاب. ويظلُّ العِلْم، والتعريف بحقائق الأمور، والتبصير بالرأي الرشيد، وما يتبعُ ذلك من الوعي؛ من أعظم ما (تُسلَّح) به الشعوب في أوقات الأزمات! ف(الرَّأيُ قبلَ شجاعةِ الشجعان).. خاصةً إذا جاء هذا (التعليم والتبصير) في سياق الحوارات الوطنية بين أركان الوطن الواحد.
ولن تأت هذه المقالة بشيء جديد؛ إنما هي محاولةٌ (للتذكير) ببعض الحقائق، واستدعاءٌ لفصولٍ مختصرةٍ لمقاطع من التاريخ، وسَوْقِها في مَسَاقٍ واحد؛ لكي نضع الأحداث في سياقاتها السياسية والاجتماعية والتاريخية.. ورُبَّ مبلَّغٍ أوعى من ناقل! وستكون هذه المقالة في خمس مقدماتٍ ونتيجة.. ففي الأولى؛ إلْمَاحَةٌ عن تاريخ اليهود في وطننا العربي؛ لنعرف حجمَ إخلاصِهم لقضيَّتِهم، ومدى أثرهم على الأحداث من حولنا، في مقابل أثرنا على أنفسنا ومنطقتنا، وحجم إخلاصنا لمبادئنا ووطنيتنا. وفي الثانية والثالثة؛ إشاراتٌ عن أولى أحداث القرن الجديد: (11سبتمبر)، وأثر ذلك على منطقتنا العربية، وفي الرابعة؛ حديث عن (نظرية المؤامرة) وموقعها في العقل العربي! ثم حديثٌ عن (إعلام الثورة)، فنتيجةٌ تقرِّب حقيقةَ المسؤول عن مجريات الأحداث.
المقدمة الأولى:
يقول بيار - إيف بوروبير في كتابه «أوربا التنوير ص89»: ((أخذت الحركة الماسونية منذ الثلث الأول من القرن الثامن عشر بُعداً قاريّاً، بل عالمياً. ففي عام 1717 دُشَّن المحفل الكبير لتبدأ عملية مأسسة الظاهرة الماسونية... وبين سنوات (1720 - 1790) كانت قد ظهرت مئات المحافل، 900 محفل على الأقل في فرنسا وحدها مع عشرات الآلاف من الأعضاء... هذا النشوء (السريع) المستديم يستحق الاهتمام. فقد ظل الماسونيون موحَّدين حول مشروع أسلافهم المؤسسين: فتح ورشة بابل من جديد للنهوض بها، ولتوحيد كل الآباء المشتتين، وإقامة جمهورية عالمية، وبناء سلسلة وحدوية بين الإخوة المشتتين في أصقاع الأرض، واختراق الحدود السياسية واللغوية والطائفية...))ا.هـ.
هذا التشتت اليهودي جاء نتيجةً لجشعِ اليهود، وبشاعةِ مخبرِهم ومعشرهم الذي دفع بالشعوب إلى منابذتهم، والتحذير منهم، ومعاداتهم، وتفريقهم في الشتات بلا دولةٍ تمثِّلهم. يقول إيريك هوفر في «المؤمن الصادق ص76»: ((لا نستغرب إذا وَجدتْ الحركاتُ الصاعدة أتباعاً كثيرين من اليهود، ولا نستغرب عندما ترى اليهودي يجوب الآفاق بحثاً عما يخفِّف إحباطَه عبر التجارة أو الهجرة... حتى جاءت الحركة الصهيونية مرحِّبةً بدمجه في كيانها الجماعي، وإنقاذه من الشعور بالعزلة))ا.هـ.
ولم تزل هذه الحركة الصهيونية تتحرك بأنشطتها الماسونية.. حتى أنشأت في الثلث الأول من القرن التاسع عشر (دولةً افتراضية)، أصبحت من خلالها تمنح أعضاءَها جوازات سفر ماسوني تمهيداً للدولة الحقيقية. (أوربا التنوير ص100).
ثم بعد ذلك بسنوات؛ جاء (هرتزل) الصحفي النمساوي الذي يعتبر أباً للصهيونية الحديثة، فدعا إلى عقد المؤتمر الصهيوني الأول في (بازل) برئاسته سنة (1897م) حضره أكثر من مائتي مندوب من أنحاء العالم، وأعلن في نهايته عن قيام الدولة اليهودية، وقال: ((الآن تأسست الدولة اليهودية.. بالتأكيد في «خمسين» سنة))، ثم توفي بعدها بسبع سنوات، وعمره 44 سنة. وقد صدقت نبوءتُه! ففي 15-5-1948 أعلنت (فلسطين) وطناً قومياً لليهود. ونقلت رفاته بعد عام إلى فلسطين ودفن في جبل في القدس سمِّي (بجبل هرتزل) «كتاب: عود على بدء 2-294».
ومطامح اليهود لم تقف عند هذا الحد؛ فقد أعلن رئيس أول حكومة للكيان اليهودي (بن قوروين): ((إن إسرائيل الكبرى لن تقوم إلا عندما يتحول الوطن العربي إلى أكثر من «خمسين» دولة)).
ولتحقيق مثل هذه المطامع الخطيرة و(الطموحة) جداً؛ رسم الصهاينة اليهود كثيراً من ملاحم التخطيط والتنظيم مع كثير من التضامن والاجتهاد، وكثيرٍ جداً من الخبائث وصور التنكُّر للأخلاق والطبائع الإنسانية؛ فالغاية عندهم تبرر الوسيلة! يقول اليهودي (حاييم وايزمان) خليفة هيرتزل: ((إن الدول يجب أن تبنى ببطء، وفقاً لبرنامج مُعَدٍ تدريجياً، مع الصبر))..وفعلاً؛ عَمَلَ اليهود ببطء وتدرُّجٍ وصبر حتى قبضوا على مفاصل الاقتصاد العالمي، واستبدُّوا بكثيرٍ من محركات السياسات العالمية.
في (حياة في الإدارة) يتطرق غازي القصيبي رحمه الله لشيءٍ مما نحن بصدده، فيعرض لتجربةٍ مرَّت به خلالَ فترة دراسته في الولايات المتحدة، فيقول: ((أدى عملي في الجمعية «جمعية الطلاب العرب» إلى اصطدامي وجهاً لوجه باللوبي الصهيوني الذي يسرح ويمرح في كل مكان من الولايات المتحدة ماداً «ذراعاً» من أذرعته التي لا تنتهي ليطوِّق بها الجامعة... الفارق الرئيس بين العرب والصهاينة أننا نتصرَّف بطريقةٍ فرديةٍ عفوية وهم يتصرَّفون بطريقة جماعية منظَّمة))ا.هـ.
المقدمة الثانية:
ومن منتصفِ القرن العشرين ننتقل إلى بدايات القرن الجديد - وأحداث 11سبتمبر تحديداً - متجاوزين عقوداً من المكاسب الدولية والإقليمية لليهود والصهيونية العالمية عبر طرائق المخاتلة والجرائم السياسية والإنسانية. وهذه فقط إشارة: يحدثنا غازي القصيبي أيضاً في (أمريكا والسعودية ص82) عن ظروف تلك المرحلة، بعد أن ذكر طرفاً من المحادثات والمراسلات التي جرت بين القيادة السعودية والأمريكية حول «القمع الإسرائيلي للانتفاضة الفلسطينية»، فيقول رحمه الله: ((... بعد ثلاثة أيام فقط من إرسال الرسالة كان رد الرئيس الأمريكي يمثِّل تغييراً حقيقياً في موقف البيت الأبيض. تحدث الرئيس عن إيمانه بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. ولأول مرة يتحدث رئيس أمريكي عن دولة فلسطينية مستقلة وبصراحة دون تحفظات... سُرَّ الأمير عبدالله بالرسالة، وأبلغ فحواها كلا من الرئيس الفلسطيني وقادة دول الطوق. كانت هناك موجة تفاؤل. وكان الجميع يتطلعون إلى خطوة الرئيس الأمريكي القادمة. كان الاتجاه في الإدارة الأمريكية هو أن يتضمن خطاب الرئيس في الأمم المتحدة المبادرة الجديدة))، ثم يقول رحمه الله: ((وقعت رسالة الأمير عبدالله وردُّ الرئيس الأمريكي موقعَ الصاعقة على إسرائيل، وآذانُ إسرائيل المتصنِّتة أطول من آذان الولايات المتحدة. أُعلنت «حالة طوارئ سياسية» في إسرائيل، وصدرت التعليمات للوبي الإسرائيلي بحشد كل قواه، والاستعانة بأسلحته، والتحرُّك في كل اتجاه، لا لوأد المبادرة الأمريكية الوليدة فحسب، بل لضرب العلاقة السعودية الأمريكية في الصميم))، ويقول: ((... ثم جاءت أحداث 11سبتمبر المشؤومة، وانشغل الرئيس بحربه ضد الإرهاب))ا.هـ.
وفي سياقٍ آخر حول الأحداث ذاتها؛ يُورِد د. عبدالسلام المسدّي (السفير التونسي الأسبق في المملكة) في كتابه (تأملات سياسية) شكوكاً حول صحة الرواية الأمريكية للأحداث، فيقول (ص51): ((... كان هناك مثقف آخر لم تكبله القيود اسمه تياري ماسان، آلى على نفسه أن يرصد الحقيقة، وأن يناضل في سبيل تعرية الزيف الإعلامي، فأنشأ على الإنترنت شبكة سماها شبكة فولتير، ولم تمض خمسة أشهر على انحناء ناطحات السحاب حتى طلع على الناس بكتاب ضخم عنوانه: «المخادعة الشنيعة»... كان يتحدث بانسياب شيِّق عن رجحان وجود مؤامرة نسجها الأمريكيون من وراء ظهور الجميع بمن فيهم حلفاؤهم، في حين كان المثقف العربي مكبلاً بعقدة النقص حين اللجوء إلى تفسيرات المؤامرة))، ويقول أيضاً (ص71): ((الأدلة على تصدع جدران الصرح الديمقراطي عديدة، وجُلُّها من الحجم الكبير، ولكن عدسة الفكر النقدي قد تقف عند المهمل من الحادثات فترى في صغرها ما لا تراه على الشاشة الكبرى، فالكونغرس ما انفك إثر أحداث (11 - 9 - 2001) يطالب ببعث لجنة تحقق في الأحداث: لماذا...؟ وكيف...؟ وظلت الإدارة الأمريكية تمانع وتتمنع، ولما كبر الضغط أذعنت بعد عام كامل، وأسند الكونغرس رئاسة اللجنة إلى هنري كيسنجر، وبدأت اللجنة عملها، ولم يمض الأسبوع الثاني حتى تأكد رئيسها - هذا الدبلوماسي المخلص لوطنه حد الرميم - بأن الإدارة ليست مستعدة لتأمين ما يضمن استقلال اللجنة فاستقال يوم 13 - 9 - 2002 وقُبر المشروع...))ا.هـ.
ويتذكَّر المتابعون (وتحتفظ ذاكرةُ الإنترنت بمقاطع) المظاهرات الأمريكية التي طالبت الرئيس أوباما في بدايات فترة رئاسته بإعادة التحقيقات لكشف حقيقة مجريات الأحداث في 11سبتمبر.
المقدمة الثالثة:
نتيجةً (للانفجار العربي) داخل الأراضي الأمريكية، وبعد أحداث 11سبتمبر تحديداً؛ ظهرت (على السطح) توجُّهاتٌ أمريكية جديدة نحو المنطقة العربية تهدف لإجراء إصلاحات (واجبة التنفيذ) في السياسة والاقتصاد. وفي كتاب (النظم السياسية العربية الاتجاهات الحديثة) الصادر من مركز دراسات الوحدة العربية؛ يقول د. حسنين توفيق (ص372) متحدثاً عن الموقف الأمريكي من الديمقراطية في المنطقة العربية بعد أحداث 11سبتمبر (باختصار): ((هناك بعض الرؤى التي تتمحور حول مطالبة الإدارة الأمريكية بتغيير موقفها بشأن الديمقراطية في المنطقة العربية باعتبار أن «تساهل» واشنطن مع نظم «تسلطية» غير ديمقراطية في الماضي قد أسهم في إيجاد البيئة الملائمة التي تنامت في ظلها الحركات والتنظيمات الإسلامية الراديكالية التي تقف من الولايات المتحدة الأمريكية موقف الرفض والعداء. مما يؤكد على الولايات المتحدة اتخاذ خطوات جادة على طريق الإصلاح السياسي في المنطقة))ا.هـ. ويتذكَّر الجميعُ أيضاً: (مشروع الشرق الأوسط الكبير) الذي طرحته الولايات المتحدة على مجموعة الدول الصناعية الثماني في مارس2004، وفيه: ((...وطالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة؛ سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة.. وسيمثل ذلك تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة، وللمصالح المشتركة لأعضاء مجموعة الثماني... إنَّ التغيرات الديموغرافية المشار إليها أعلاه، وتحرير أفغانستان والعراق من نظامين قمعيين، ونشوء نبضات ديموقراطية في أرجاء المنطقة، بمجموعها، تتيح لمجموعة الثماني فرصة تاريخية!!))ا.هـ. ومع ما تضمَّنه المشروع من الوعود البرَّاقة التي تُبْهِرُ العربي البسيط؛ إلا أنَّ حقيقةَ المقاصد لهذا (المشروع) تظهر في أماكن أخرى من تصريحات بعض مسؤولي الإدارة الأمريكية. ففي 20 أيار 2005 أجرت وكالة الإعلام مقابلة صحفية مع «برنارد لويس»، وهو مؤرِّخ وسياسي وأحد أكبر المستشارين للرئيس بوش ونائبه ديك تشيني، والذي تصفه «وول ستريت جورنال» بأنه «وفَّر الكثير من الذخيرة الإيدلوجية لإدارة بوش في قضايا الشرق الأوسط والحرب على الإرهاب». يقول: ((إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضُّرهم، وإذا تُرِكوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمِّر الحضارات، ولذلك فإن الحلَّ السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم.. إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا في ذلك، إما أن نضعهم تحت سيادتنا، أو ندعهم ليدمروا حضارتنا، ولا مانع عند إعادة احتلالهم أن تكون مهمتنا «المعلنة» هي تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية... واستثمار التناقضات العرقية، والعصبيات القبلية والطائفية فيها، قبل أن تغزو أمريكا وأوروبا لتدمر الحضارة فيها))ا.هـ.
سعيُ الحكومات الأمريكية لتقسيم المنطقة العربية ليس جديداً، ولا وليدَ اللحظة، ولا يُصنَّف تحت (ردودِ الأفعال)! بل منذ عام 1987م ووسائل الإعلام الأمريكية تنقل أحاديث السياسيين، وكبار الشخصيات الإستراتيجية في الإدارات الأمريكية المتعاقبة عن تقسيم العراق إلى جنوب ووسط وشمال، والسودان إلى جنوب ودولة شمال ودارفور، ومصر إلى قاهرة مسلمة في الوسط، وشمال قبطي، وشبه جزيرة سيناء تحت النفوذ الإسرائيلي... وليس بخافٍ على أحدٍ ما يجري من (دواعي) التقسيم في اليمن وليبيا وبلادٍ عربية أخرى، على الطريقة الأمريكية، ونظريَّتها في (توازن القوى).
المقدمة الرابعة:
كلُّ هذه الإشارات، وأحاديث الساسة في (الإعلام)، والتقارير السياسية (المعلنة)، وما لا يفوت على المتابع؛ تشير بوضوح إلى وجود أدوارٍ خارجية (مهَّدت) لهذه الوقائع العربية؛ أياً كانت حجم هذه الأدوار، وأياً كانت طبيعتها.
خوفُ البعض من الوقوع في (نظرية المؤامرة) يجب أن لا يؤدِّي بنا إلى تجاهل الحقائق (المعلنة)، كما أن وجود بعض الحقائق المؤكَّدة يجب أن لا يؤدي بنا إلى التخلّي عن مسؤوليَّاتنا، وتحميل نتائج أخطائنا وخلافاتِنا إلى خارج الحدود.. ويبقى أكبر شاهدٍ على (نظرية المؤامرة)؛ ما جرى ويجري الآن على أرضِ (العراق)!
تياري ماسان صاحب كتاب «المخادعة الشنيعة» (المشار إليه آنفاً) يقول في فضائيَّاتِ الإعلام الأمريكي: ((إن نظرية المؤامرة هي التي يجب على العاقل أن يبدأ بها بعد الذي أعلنته بلاد الأبراج من تقنين محكم لفلسفتها الجديدة في إدارة المعلومة)).
ويقول الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية في المؤتمر الصحفي الذي عقد في 4-4-1432 جواباً عن سؤال يتعلق بما تشهده المنطقة، وما إذا كان هذا يعود إلى تحريض من جهات أجنبية، قال: «التدخل الخارجي واضح.. هل هو السبب الرئيس أم لا؟ أعتقد أن كل بلد له ظروفه الخاصة في هذا الإطار، وهناك طبعاً من يؤمن بالمؤامرة، وأن الأشياء لا تتحرك إلا بتدخل خارجي، ولكن لابد أن الموضوع مزيج من العوامل، وليس عاملاً واحداً)).
المقدمة الخامسة:
تروي لنا مؤرخات السياسة العالمية القديمة - والصفحات الدموية منها خاصة - عن ثورات شعبية في وجه الظلم والطغيان سُحقت تحت مساكن القرى، ودفنت تفاصيل أخبارها في المقابر الجماعية. إلا أن زمن الإعلام الجديد الذي حوَّل العالم إلى شاشات صغيرة؛ جعل من التعتيم الإعلامي صعباً، وشبهَ متعذِّرٍ أحياناً. نعم! لم يزل التزويق الإعلامي وزُخْرُفِه حاضراً، وبقوة السياسة!
ونذكر هنا: (قناة الجزيرة) التي - بطبيعة الحال - لا تخرج عن هذا القانون. يقول غازي القصيبي رحمه الله: ((استطاعت قناة «الجزيرة» عبر مهنيتها العالية وموظفيها الممتازين والقدر الواسع الذي تتمتع به من الحرية أن تصبح القناة الجماهيرية الأولى في الأمة العربية... هذا صحيح بلا شك. وصحيح أيضاً أن شأن «الجزيرة» من الناحية السياسية؛ كشأن «المناطق الحرة» من الناحية الاقتصادية. فإن بعض الدول تلجأ لتشجيع الاستثمار بإقامة «مناطق حرة» لا تطبق فيها قوانين الدولة الاقتصادية. إلا أن هذه الحرية تقف عند حدود «المنطقة الحرة» ولا تدخل شبراً واحداً داخل الدولة نفسها. ووضع «الجزيرة» لا يختلف عن وضع أي «منطقة حرة»...))ا.هـ.
يضاف إلى هذا الاستثناء؛ ما جاء في التقرير المنشور في عدد يوم الخميس 12ربيع الآخر1432 من جريدة الجزيرة، وفيه: ((... فهي على سبيل المثال لا الحصر لم تعرض الإنجازات للجيش السعودي أثناء الأزمة مع الحوثيين التي انتهت بانتصار سعودي. ولم تهتم به، ولم تبذل طاقتها اللوجستية التي تحرص عليها خلال الأزمات..))ا.هـ.، ويضاف إلى ذلك أيضاً؛ تغطيتها (الخجولة) للدَّاخل الإيراني، مع تغطيتها (المترددة) في البحرين، - فمثلاً - لم تعرض «الجزيرة» مشهد (دهس الجندي البحريني)، والذي تم بثُّه في عدد من القنوات؛ في مقابل بثّها (المتكرر) لمقاطع (مختلفة) لحوادث الدهس في أحداث مصر المؤسفة! والسؤال: هل من مهمَّات الإعلام نقل الحقيقة كاملة؛ أم اجتزاؤها؟ وروايةُ الأحداث بموضوعية؛ أم إذكاؤها؟
وهنا أقف لأنتقل إلى موضوعٍ ذي صلة. في مقالةٍ بعنوان «أفيون الشعوب الحقيقي» نُشرت مع نهاية بطولة كأس العالم الأخيرة؛ تحدَّث الكاتب فهد الأحمدي - بشواهد - عن التداخل بين المصالح السياسية وبطولة كأس العالم خاصة. هنا؛ نستدعي (بعض) الأحداث التي تدعو إلى (التأني) و(التأمل)؛ في 2-12-2010 أُعلن اسم الفائز بتنظيم كأس العالم لعام 2022، يقول المتابعون: إنها المرة الأولى التي يعلن فيها تنظيم بطولة قبل وقت إقامتها بـ12 سنة، وفي 18-12-2010 تبدأ الثورة التونسية... إضافة إلى أحداث ووقائع في هذا السياق؛ لم يغفل عنها المتابعون، وليس هذا مقامُ استدعائها هنا! وعوداً على (نظرية المؤامرة)؛ فقد كنتُ أتَّهم بها نفسي حين «أتساءل» عن حقيقةِ (أذرعة) الصهاينة و»مدى» تسلُّطِها على (الإعلام الجديد!).. حتى نشرت جريدة الجزيرة 29ربيع الآخر1432 خبراً عن نشطاء عرب يَدْعُون لمقاطعة (الفيس بوك) رداً على غلق «إدارة» الموقعِ «نفسِه» أكثرَ من ثلاث صفحات للانتفاضة الفلسطينية الثالثة بموجب (تعليمات إسرائيلية)! والحديث عن إعلام الثورات حديثٌ طويل؛ إلا أن المفارقة أن التدخلات في إعلام الثورة؛ أشد وضوحاً من التدخلات في الثورة ذاتها!
نعلمُ أنَّ في حياة ملايين العرب، وتفاصيل يومياتهم المحبَطة والرتيبة؛ كثيراً من (أكوام القش) التي تنتظر شرارة الإعلام! إلا أن أشد ما يخافه الغيورون هو تقاطع (إحباطات) المواطن العربي مع مصالح الشعوبيين، وجشع الطامعين. خاصةً مع ما تشهده منطقتنا العربية وخليجنا العربي من تحالفات خطيرة! وفي كتاب «التحالف الشرير» الصادر قبل سنوات قريبة؛ (إشارات) إلى المصالح المتبادلة، والتعاون الاستراتيجي الخطير بين إيران وإسرائيل على حساب شعوب المنطقة العربية.
وأخيراً:
مَن المسؤول عما يحدث في منطقتنا العربيةِ من تخلُّفٍ ومظالم، وما تولَّد عنهما من مصائب الاقتتال بين أبناء التراب الواحد، والبلدة الواحدة؟ الجواب عن ذلك؛ جوابٌ إلهي.. يقول الله:
(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُم) (165) سورة آل عمران
ما جرى في السنوات الماضية، وما يجري الآن في منطقتنا العربية؛ ليس نتيجةً للتَّدخُّلِ الأجنبي، أو قوتِه في التنظيم والتنفيذ؛ بل ذلك نتيجة لضعفنا المتولِّد عن خلافاتنا العربية (المخجلة)، والتخلف الشديد عن الواجبات الشرعية والوطنية، وفوضويتنا في ترتيب الأوَّليات (الاستراتيجيات)، وفي رعاية المصالح العامة..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد عددَ ما كان يحذِّر أمتَه في مُفتَتَحِ خُطبِه فيقول: ((نعوذ بالله من شرورِ أنفسنا، وسيئات أعمالِنا)).
يقول غازي القصيبي رحمه الله: ((اللغز الذي حيَّر ولا يزال يحيِّر الكثيرين عن ضعف العرب رغم كثرتهم، وقوة اليهود رغم قلتهم ليس لغزاً على الإطلاق. عندما يتعلَّم العرب كيف ينظمون أنفسهم على كل المستويات سوف تنتهي أسطورة التفوق الصهيوني... إن الأشياء التي تفرق اليهود لا تختلف عن الأشياء التي تفرق العرب. إلا أن اليهود تعلموا من الحريق النازي الهائل أن بقاءهم رهنٌ بقدرتهم على إنشاء تنظيم فعَّال.. وكل ما أتمناه أن لا يحتاج العرب إلى فاجعةٍ مماثلة قبل أن يستوعبوا أن لا حياة لهم بدون تنظيم))ا.هـ.
ما يجري في بعض مرابعنا العربية يستدعي من ثقافتنا حكمةَ شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال: ((ينصر الله الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة)).
يستدعي أيضاً - فيما يستدعيه - تأكيدَ شريعتِنا الإسلامية على توقير حق الضعيفِ خاصة؛ ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟)). إن حقوق الضعفاء هي أول ما يجب أن تهتم به أنظمتنا العربية... ((وقد يُسِيلُ رَذاذُ الدِّيمةِ الوَادِي))! وفي وعي الشعوب بإذن الله عزاءٌ من كل ذلك!
وبعد؛ فإن ما جرى في بلادنا نحن السعوديين (المملكةِ العربية السعودية)؛ يستدعي حمدَ الله، والثناءَ عليه أنْ أظهر سبحانه أمنَنَا، وكبت عدوَّنا، وألَّف بين قلوبنا.. يستدعي كذلك؛ الإعجابَ الشديد بوعي السعوديين ويقظتهم تجاه مكاسبهم الشرعية والوطنية.
ما جرى في بلادنا؛ ذكَّرني بعبارةٍ استشرافيةٍ موفَّقة لأحد علماء بلادنا الموفَّقين.
يقول الشيخ بكر أبوزيد (عضو هيئة كبار العلماء رحمه الله) في كتابه «خصائص الجزيرة ص72»: ((... وفي المستقبل على مشارف الساعة، في أيام الفتنة الكبرى؛ فتنة المسيح الدجال؛ فإن الرجلَ المؤمن الذي تتحطَّم على يديه هذه الفتنة هو من أهل هذه الجزيرة... وفي هذا إشارة وإيماء إلى أنَّ كل فتنة عمياء صماء تجتاح بلادَ الإسلام؛ تتحطَّم على صخرة هذه الجزيرة، وإذا كانت فتنة الدجال هي أعظم فتنة من لدن نوحٍ عليه السلام إلى قيام الساعة، ويكون تحطيمها على يد رجلٍ مؤمن من هذه الجزيرة؛ فإن كل فتنة دونها ستتحطم على يد أبناء هذه الجزيرة بإذن الله تعالى))ا.هـ.
ورحم الله الأستاذ محمود شاكر «المصري» حين حذَّر أبناء هذه الجزيرة وذكَّرهم (المقالات ص679) بأنَّ بلادَهم؛ ((هي مادة التناصر، ومهوى قلوب الأمم، ومعقد الآمال، وحصن العرب، وإليها تحشد القوى الأعجمية، وتدبّر الدسائس، وفيها تلقى الفتن، وتوقد نيران العداوة بين أهلها...))ا.هـ.
تخطُّفُ الناس من حولنا، وتعاظُم التحديات في منطقتنا، وسعي العدو (الصِّهيُوصَفَوي) إلى مزيد من الدسائس؛ توجب علينا جميعاً مزيداً من التعاون والتكاتف والتكافل، ومزيداً من التناصح والتآمر بالخير، والتسامي إلى المصالح العليا للدولة والوطن، والتمسُّك بمقدرات بلادنا الشرعية، ومكتسباتها الوطنية، والدعوة إلى المزيد من الحوارات الوطنية على كل المستويات، وفي كل الاتجاهات. وما أعظم المنَّة الإلهية التي يتودَّدُ بها ربُّنا إلى عباده حين قال: ?أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ? (67) سورة العنكبوت؟
حفظ الله بلادَنا، وزادها من سلامه ورحمته وبركاته.