باستثناء الأطباء خصوصا وأرامكو عموما، فإنك لاتجد السعودي في مواقع مهنية علمية فنية حساسة، هي في الواقع محاضن الإبداع الذي يرقى بالأوطان ويرفع سمعة أبنائها المهنية العلمية عاليا بين شعوب العالم.
أينما نظرنا حولنا في بلادنا، سواء في البنوك أوفي الشركات الكبرى فإننا لن نرى إلا الأجانب في الأماكن الفنية الحساسة التي تحتاج إلى علم وخبرة. أما السعوديون فباختلاف مواقعهم ومسمياتها فهي تدور حول المهام والأدوار الإدارية. هناك الكثير من السعوديين الناجحين إداريا، وما كان لهم ذلك إلا بسبب اعتمادهم على خبرات الأجانب. فمهمة الإداري السعودي إن كان ناجحا تتمحور في حسن استغلاله لخبرات الأجانب وإدارتها وحسن توظيفها.
أدرك الإداريون السعوديون هذا من القديم، ففقدوا ثقتهم بالسعودي فلم يمنحوه الفرصة بأن يتعلم من الأجنبي الخبير. فالسعودي قد يحصل على منصب بجانب الخبير الأجنبي ولكن بالواسطة، فالواسطة تشفع له فتغنيه عن اكتساب الخبرات من الأجنبي، فتمر السنون وهو يراوح مكانه علميا ومعرفيا بينما يترقى بحسب السيرة الذاتية، ولكنه في الحقيقة هو هو لم ينتفع من الفرصة التي منحت له. وهكذا تدور العجلة فلا يوجد هناك خبراء سعوديون في المواقع الفنية الحساسة في القطاع الخاص، ولا توجد آلية معينة تعيد الثقة في السعوديين فتعطي الفرصة لمن هو أهل أن يتواجد في مثل هذه الأماكن الفنية الحساسة.
من يتأمل ثقافة العمل الإنتاجية عندنا يجدها تعتمد في نموها على الإنفاق السخي في جانب المعدات المتطورة واستجلاب الخبرات الأجنبية المكتملة لا على الإبداعية الذاتية. فالإداريون السعوديون الناجحون في سباق حميم من أجل زيادة الأرقام وبمراعاة السياسات الاجتماعية في التوظيف لتسهيل التعقيدات البيروقراطية التي تنوء بها الأجهزة الحكومية. فلا وقت عند هؤلاء لبناء البنية التحتية لعقول الوطن المهنية العلمية لأن المجتمع لا يدرك أهمية اكتساب الخبرات من الأجانب بل كل همه في وظيفة ثابتة وعوائد مجزية.
وفي اعتقادي أن من أهم الأسباب العملية لنشوء هذا المحيط غير الصحي في بيئة العمل عندنا هو الفجوة بين المعرفة العلمية (الأكاديمية) وبين الخبرة. فمن يملك المعرفة العلمية لا يملك الخبرة ومن يملك الخبرة لا يملك المعرفة العلمية. وقد تطورت هذه الفجوة عندنا حتى أصبح الطالب الجامعي في بلادنا لا يهتم في تحصيل المعارف بقدر اهتمامه بتحصيل الشهادة لأنه قد تواتر عنده مقولة باطلة فاسدة مفسدة هي أن ما يتطلبه العمل من العلوم مغاير لما درسه في الجامعة. والذين يرددون مثل هذا الأقوال إما أنهم قد عملوا في مجال خارج عن تخصصهم الذي تعلموه في الجامعات، وإما أنهم قد كانوا بُلداء في الجامعة فلم يفقهوا شيئا مما درسوه.
اكتساب العلوم بالممارسة أمر مكلف جدا على الشركة وعلى المجتمع، وغالبا ما يتقاعد المرء وهو خبير في عمله من الناحية التنفيذية، ولكنه من الناحية العلمية لا يعلم لماذا يقوم بهذا التنفيذ وبهذا الإجراء، لذا فتجده عاجزا عن الإبداع كما تجده عاجزا عن التعامل مع المشاكل الطارئة والمفاجئة لأنه معتاد على تسيير العمل ولكنه لا يفقه ما يعمل ولماذا هكذا تسير الأمور.
في البلاد المتطورة تجد الطالب الجامعي حريصا على فهم العلوم التي ينوي أن يتخصص فيها مستقبلا لأنه يدرك يقينا أن قبوله في الوظيفة مبدئيا ثم نجاحه بعد ذلك في عمله يعتمد على مقدار فهمه للعلوم التي درسها في الجامعة. ثم مع تمرسهم يكتسبون الخبرة التنفيذية والإدارية فيترقون بعد ذلك على حسب عقولهم وإبداعياتهم ومؤهلاتهم الذاتية.
إن كثيرا من الفرص الإبداعية مكانها في هذه الوظائف الفنية الحساسة، وإن مما سكت عنه أن كثيرا من التنفيذيين عندنا ما هم إلا إداريون للخبرات الأجنبية، يجيرون إبداعات هذه الخبرات لأنفسهم بعد أن حرموا السعوديين من اكتساب الخبرات الفنية العلمية الأجنبية في أنانية مفرطة وجهل معرفي.