أن تنتقد مشروعاً ناجحاً لمفكر عالمي ذلك عمل عسير، لكن أن يكون نقدك في حضور هذا المفكر في ندوة أمام الملأ فتلك مجازفة. سأحكي هنا عن مشروع ألفن توفلر أحد كبار المفكرين، وأكبر مفكر مستقبلي في العالم.
كنت قدمت ورقة عمل لمناقشة مشروعه ونقده في مهرجان الجنادرية، وكنت قبل ذلك في اجتماعات اللجنة الثقافية للمهرجان من أولئك الذين أصروا على دعوة هذا المفكر الكبير لما لأعماله من أثر عالمي في التطورات العلمية والتكنولوجية. وقد تمت دعوته كمفكر عالمي في ندوة موسعة تحت عنوان «مفكر ومشروع» لمناقشة مشروعه، ووافق على الحضور، وأصبحت متلهفاً لهذا اللقاء كمراهق يريد اللعب مع الكبار.
إنما خاب أملي وصدمت حين اعتذر عن الحضور قبيل أيام من الندوة، لأسباب لم نعرفها، ربما لكبر سنه، فهو في الثمانينات من العمر. نعم، أحسست بمرارة ضياع الفرصة النادرة لمناقشة هذا المفكر وجهاً لوجه، إذ سيصبح طرحي النقدي المتواضع لمشروعه مجرد رأي عابر لأنه أمام حضور محايد. لقد كنت مندفعاً ومنفعلاً عبر موقف تراكم منذ سنين تجاه الاحتفاء غير النقدي بمشروع توفلر المستقبلي الذي توقع الثورة التقنية.. الثورة الرقمية والإلكترونية.. ثورة المعلومات والاتصال.. إنها أم الثورات! حتى أن كثيراً من المراقبين يعتبرها من إرهاصات الثورات العربية الراهنة..
أول ما ارتبط به اسم توفلر هو كتابه «صدمة المستقبل» عام 1970، موضحاً أن التغييرات التكنولوجية في العصر الحديث وقعت بسرعة كبيرة لدرجة أن الكثير من الناس أصبح يعاني من ضغوط وارتباك وتوتر نفسي، بسبب صعوبة التكيف مع سرعة التغيير. كان كتاباً صادماً آنذاك ومثيراً للمخاوف بشأن التطورات الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية الناجمة عن الابتكارات التكنولوجية. يقول توفلر: «صدمة المستقبل هي إجهاد مزعج واضطراب نحن نحفزه في الأفراد عبر إخضاعهم لتغيرات مفرطة في وقت ضيق».. «الإنسان لديه قدرة بيولوجية محدودة على التغير. وعندما تفيض عن حدها فإن القدرة تصبح في صدمة المستقبل».
تابع توفلر نظريته المستقبلية مصدراً كتابه «الموجة الثالثة» (1980)، لكنه على نقيض كتابه الأول كان متفائلاً. وهذا التناقض سيصبح أهم نقاط الضعف في مشروع توفلر المستقبلي. إنما ما أذهل المراقبين أن كثيراً من توقعاته تحقق فعلاً مما جعل كتابه هذا أشهر كتاب مستقبلي وجعله أهم مفكر مستقبلي معاصر على الإطلاق. بعد ذلك صدرت لهذا المفكر عدة كتب بعضها بالتعاون مع زوجته هايدي توفلر.
في كتابه الموجة الثالثة يصف توفلر ثلاثة أنواع من الحضارات، على أساس موجات تاريخية متعاقبة. الموجة الأولى تمثل مجتمع الثورة الزراعية بعد حلوله محل مجتمع الصيد والقطف. فيما تمثل الموجة الثانية الثورة الصناعية الذي بدأ في الظهور حوالي أواخر القرن السابع عشر؛ مجتمع قائم على: المصانع الضخمة والشركات الكبرى، الإنتاج الهائل والتوزيع الشامل والاستهلاك الشامل، التعليم الشامل، الإعلام الجماهيري الشامل، الترفيه الشامل، أسلحة الدمار الشامل..إلخ.
أما الموجة الثالثة فهي مجتمع ما بعد الصناعي، الذي بدأ بالظهور تدريجياً منذ أواخر 1950. لماذا نسميه مجتمع ما بعد صناعي؟ لأنه لا يعتمد على الموارد المادية للإنتاج الصناعي التقليدي (العمال، الأرض، رأس المال) بقدر ما يعتمد على اقتصاد المعرفة. هنا تصبح المعرفة هي المادة الرئيسية للاقتصاد إذ تستند على العقل لا على العضلات، مضخمة حواسنا وذاكرتنا بدلاً من قوتنا الجسدية.. وأصبحت الشرائح الإلكترونية الصغيرة تنتج ما كان ينتجه ملايين العمال..
ومن طريف ما توقعه توفلر بأن الفجوة بين المنتج والمستهلك ستردم، فسيصبح المستهلك منتجاً بشكل متزايد. ومن هنا اخترع توفلر مصطلح «بروسومر» (prosumer) دامجاً كلمتي المستهلك والمنتج الإنجليزيتين. على سبيل المثال، نقوم من خلال أجهزة الصراف الآلي بسحب مبالغ نقدية أو إجراء بعض المعاملات بدلاً من أن يقوم الموظف الصراف بالعملية على النحو السابق، فأصبح المستهلك يقوم بعمل الموظف الوسيط أو البائع أو المنتج، وهذا ما نجده على نحو متزايد مع الإنترنت..
إنها ثورة في تكنولوجيا المعرفة وثورة في الاتصال وتفجر في المعلومات. وتوقع توفلر أن الكمبيوتر وتوابعه الإلكترونية ستكون أهم ركائز الإنتاج والاقتصاد. مع العلم أنه في ذلك الوقت لم يكن الإنترنت قد ظهر بعد، إلا في الحيز العسكري (وكالة ناسا). ومثلما طُرحت فكرة نظام عالمي جديد في السياسية والاقتصاد فنحن بحاجة إلى نظام معلوماتي جديد، كما يرى توفلر. «مع أهمية المعلومات المتنامية، فإن الحضارة الجديدة ستعيد هيكلة التعليم، وتعيد تعريف البحث العلمي، وقبل كل شيء، تعيد تنظيم وسائل الإعلام والاتصال.. بدلاً من الهيمنة الثقافية من قبل وسائل إعلام ضخمة محدودة، فإن حضارة الموجة الثالثة ستتجزأ في إعلاميات داخلية، وتتفكك الشركات الكبرى إلى كيانات أصغر تعمل مستقلة..إلخ، مؤدية إلى تنوع هائل وتشكل في الخيال الفردي خارجاً عن تيار الوعي الجماعي وداخلاً فيه».
ومن الناحية السياسية فإن أخطر ما تثيره توقعات توفلر هو تآكل الدولة القومية وتشكل نظاماً عالمياً جديداً.. فالمتوقع أن الدولة القومية ستتعرض إلى التفكك من أسفل ومن فوق. فمن أسفل ستصعد الاقتصاديات المحلية ويتزايد نفوذها ومصالحها على حساب الدولة المركزية مع النقل التدريجي للسلطات من الدولة إلى الأجهزة الإقليمية؛ وما يتبعه من استقلال ذاتي أو الانفصال، كما حدث ويحدث في كثير من دول العالم، وآخرها السودان. أما تفكك الدولة القومية من فوق فيشمل صعود قوى الكيانات متعددة القومية أو ما فوق القومية، كالمنظمات الدولية ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي، والشركات المتعددة الجنسيات، والمنظمات العالمية غير الحكومية، والمنظمات الدينية ذات الامتداد العالمي، وحتى المنظمات الإرهابية أخذت طابعاً عالمياً..
وفي المسألة الديمقراطية سيحدث تحول في الصفة الأساسية للديمقراطية المتمثلة في انتخابات دورية كل فترة محددة نحو مزيد من التفاعل المباشر بين الحكومة والشعب، حيث تعمل استفتاءات متواصلة ويتم التصويت بشكل مستمر في الشبكة العنكبوتية في كافة مجالات الحياة.
حسناً، ما الذي يمكن أن ننتقده أمام هذه الثورة الجارفة والمشروع المستقبلي الباهر لنظرية توفلر؟ هناك الكثير، لكن الحيز لا يسمح هنا، فليكن في المقالة القادمة.