في الحلقة السابقة من هذه المقالة تحدثت باختصار عما كتبته في الفصل الأول من دراستي عن الشيخ محمد، وهو الفصل الذي تناول أوضاع وسط الجزيرة العربية، أو منطقة نجد، قبيل ظهور دعوة ذلك الشيخ، وما كان متوقعاً أن يحدث لها بعد ظهورها.
وكان مما قلته في خاتمة تلك الدراسة: إن المفهوم الغربي المتمثل في فصل الكنيسة عن الدولة، أو الدين عن السياسة، ليس له ما يماثله في الإسلام، الذي يرى أن النظام السياسي لحياة الإنسان ليس إلا وسيلة من الوسائل التي تُحقِّق بها مُثل الدين العليا. ووفقاً لهذا الموقف، أو المفهوم، فإن حركات الإصلاح الديني في الإسلام عبر تاريخه - تحدث، عندما تنجح، تغييراً في شكل القيادة والبنية السياسية. وعندما يحدث التغيير بدون مراعاة الفكرة الدينية فإن نتيجته تكون عابرة، وقد يتسبب في اضطراب اجتماعي. وفي ضوء ذلك يمكن أن يعد التحالف بين دعوة، أو حركة، ابن عبد الوهاب وآل سعود تحقيقاً لهذا المطلب الإسلامي في النظام السياسي، الذي يعبر عن الأهداف الدينية، وإن بقاء كل من طرفي التحالف حتى الآن مقياس للنجاح الذي حققته القيادة.
ومما قلته، أيضاً، - بعد إيضاح حدوث ما توقعت حدوثه نتيجة كون نجد مكاناً مناسباً لنجاح حركة إصلاح سياسية ودينية -: إن محمد بن عبد الوهاب كان مؤهلاً كل التأهيل للقيام بما قام به من دعوة إصلاحية لمكانة أسرته العلمية، ولما تحلى به هو من صفات ذاتية ورسوخ علمي. على أن مما ينبغي أن يشار إليه هو أنه أظهر نفسه على أنه مصلح، لا على أنه آت بتفسير جديد للإسلام. ومع ذلك فإن ما دعا إليه بدا غريباً لدى كثير ممن دعاهم لكونهم لم يسمعوه من علمائهم قبل ذلك. ودعوته إلى التمسك بالسنة النبوية لم تكن تعني أن يعيش معاصروه كما عاش المسلمون في عصر النبوة في حياتهم المعيشية. ومع أن شدة تمسكه بالسنة قادته إلى اتخاذ موقف صلب أمام خصومه فإن طريقة طرحه لآرائه أدت إلى حراك فكري حول المسائل المطروحة، وبخاصة في التوحيد وما يتصل به.
أما بعد:
فقد كان جون لويس بوركهارت، السويسري الجنسية، من أوائل الذين تحدثوا عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته من الأوروبيين. وقد درس اللغة العربية، وشيئاً عن الإسلام، كما قرأ كتب التاريخ الإسلامي قبل مجيئه إلى بلاد الشام، ثم إلى الحجاز إبان وجود محمد علي باشا هناك، محارباً للدولة السعودية الأولى. وقد اعتنق الإسلام، وتوفي قبل نهاية تلك الدولة بسنة واحدة في القاهرة حيث دفن في مقبرة المسلمين. ومما قاله فيما كتبه تحت عنوان: «مواد لتاريخ الوهابيين»، وهو ما ترجمه كاتب هذه السطور إلى العربية، عن الشيخ محمد ودعوته ما يأتي:
لم تكن مبادئ ابن عبد الوهاب مبادئ ديانة جديدة، بل كانت جهوده موجهة فقط لإصلاح المفاسد التي تفشت بين المسلمين، ونشر العقيدة الصافية بين البدو الذين كانوا مسلمين اسمياً، لكنهم كانوا جهلاء بالدين وغير مبالين بفروضه التي أوجبها. وكما هي الحال بالنسبة لكل المصلحين لم يفهم من قبل أصدقائه ولا من قبل أعدائه. فأعداؤه حينما سمعوا بفرقته الجديدة التي تهاجم انحراف الأتراك، وتنظر إلى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بغير نظرتهم التقديسية، اقتنعوا أن عقيدة جديدة قد اعتنقت، وأن أتباع ابن عبد الوهاب - لذلك - ليسوا مجرد ضالين، بل إنهم كافرون. وأصدقاؤه، وبخاصة البدو الذين كانوا جهلاء بالدين - قبل أن يعرفوا دعوة ابن عبد الوهاب -، والذين أصبحوا يعرفون عادات الحجاج الأتراك وسكان المدن من العرب ومبادئهم المختلفة، بدا لهم ما أتى به هو وكأنه ديانة جديدة أيضاً.
ومما قاله بوركهارت أيضاً:
إن مبادىء ابن عبد الوهاب وأتباعه الأساسيين تتفق مع تلك التي تدرس في مناطق الإمبراطورية الإسلامية المترامية الأطراف. فالقرآن والسنة مصدران أساسيان مشتملان على كل الأحكام، وآراء المفسرين الأجلاء للقرآن محترمة بالرغم من أنها ليست متبعة على إطلاقها. وفي محاولة لإيضاح الأعمال الأصلية والمعتقدات الصافية للمؤسس الأول للإسلام والأوائل من أتباعه كان لابد لأتباع ابن عبد الوهاب من مهاجمة عدد من الأراء الخاطئة والمفاسد التي طرأت على الإسلام كما يدرس الآن، ولابد لهم، أيضاً، من الإشارة إلى الحالات الكثيرة التي يتصرف بها الأتراك على نقيض مباشر مع المبادئ التي يعترف هؤلاء أنفسهم بأنها أساسية.
ومما قاله بوركهارت أيضاً:
إن ابن عبد الوهاب اتخذ القرآن والسنة دليله الوحيد في الأخلاق، وإن الخلاف بينه وبين الأتراك السنيين - مهما قيل عنه - هو أن أتباع ابن عبد الوهاب يتبعون بدقة الأحكام نفسها التي أهملها الآخرون. ولهذا فإن وصف دعوة ابن عبد الوهاب ما هو إلا تخليص العقيدة الإسلامية مما علق بها من شوائب.
ومن أوائل الأوروبيين الذين كتبوا عن الشيخ محمد ودعوته وأتباعه أندرو كرايتون، وذلك في كتابه «تاريخ الجزيرة العربية قديماً وحديثاً»، المنشور في أدنبرا عام 1833م، والمكون من جزأين. وقد جاء حديثه في الفصل السابع من الجزء الثاني من ذلك الكتاب تحت عنوان: «تاريخ الوهايبين» ومما ورد فيه.
«كان من أعظم الثورات التي شهدتها الجزيرة العربية، منذ أيام محمد -صلى الله عليه وسلم- تلك الجماعة الدينية التي أوجدها (محمد بن عبد الوهاب) المولود في نجد. وقد زار في شبابه مكة والمدينة والبصرة وبغداد وبلداناً أخرى.
ولاقتناعه بما رآه في أسفاره من فساد تام في عقيدة الإسلام الأولى من الناحية العملية، بخاصة لدى الأتراك والفرس، قرر أن يكون مصلحاً. وقد ضمنت له قدراته الذاتية وعلمه وحكمته احترام مواطنيه، فاستجاب عدد منهم لدعوته. ويمكن القول باختصار: إن ديانة أتباعه وحكومتهم محمدية (يعني إسلامية) تطهيرية قائمة على تحالف بدوي يحتل فيه الزعيم الأكبر القيادة والسياسة لأولئك الأتباع. وإن عقيدتهم محافظة يحتل فيها توحيد الله المبدأ الأساسي، وتؤكد على الاعتقاد بأن محمداً رسول يحمل رسالة مقدسة، لكنه بشر. ولأنهم يعدون الناس متساوين أمام الله فإنهم يحرمون التوسل بالأولياء الأموات أو تقديس رفاتهم.
أما من حيث الأخلاق فهم محافظون جداً، إذ يحرمون الخمور وغيرها من المسكرات، كما يحرمون أي اتصال جنسي غير شرعي. ويحرمون، أيضاً، ترك العدل، وعدم أداء الزكاة، والغدر والربا والقمار، وجميع المفاسد التي لوثت المدن الإسلامية بما فيها المقدسة. وإن جهود ابن عبد الوهاب موجهة ضد الفساد هادفة إلى إعادة عقيدة الإسلام إلى طهارتها الأولى.