بالرغم من كثرة العوامل المشتركة بين الشعوب العربية، إلا أن الفروقات لا تزال عميقة في شخصية الإنسان العربي وقدراته على التعبير عن أزماته، فالإنسان المصري على سبيل المثال يختزن كميات هائلة من المشاعر والأحاسيس الإنسانية، وقد كانت ثورة الشعب المصري حافلة بمشاهد لا حدود لها من الكوميديا السياسية، وكانت ساحة التحرير عبارة عن وثيقة إعلامية تاريخية، ودليل على انتصار السلام وثقافة السلم ضد العنف والتطرف، بل كانت مسرحاً من مسارح الكوميديا السياسية في التاريخ الحديث.
ما حدث لم يكن فقط لأنهم يكتنزون ثقافة الشعوب النهرية الغنية بحب الحياة، بل لأنهم شعب عاشق للفنون والمسرح، ومبدع في الثقافة الإنسانية، ولو استعرضنا الإنتاج الإنساني العربي خلال القرن الماضي لأدركنا حجم الإنجاز المصري في الآداب والمسرح والسينما، وكانت القاهرة رمزاً للقوة الناعمة خلال العقود الماضية نظراً لما تعيشه من حريات في الأدب والفن، ولا يحتاج الأمر إلى شهادة، فقد كان عدد السياح الذين يزورونها سنوياً يفوق أي مدينة عربية أخرى.
كان رمز انتصار الثورة المصرية تلك العفوية الكوميدية التي تلت إعلان نائب الرئيس السابق عمر سليمان تنحي الرئيس، وكان نجمها الشخصية الصامتة التي وقفت خلف عمر سليمان أثناء إلقاءه خطاب التنحي، فقد وصل المصريون إلى اللا مفكر فيه عندما أدخلوا تعابير وجهه الجادة أثناء إلقاء سليمان الخطاب إلى كل فصول التاريخ وشخصياته غير العادية بدءاً من هتلر وانتهاء بالعقيد معمر القذافي.
كذلك دخل المشجع الزملكاوي «أبو الجلابية» التاريخ كرمز للثورة المضادة، عندما نجح مصوراً في ملاحقته، وهو يسرع منطلقاً داخل المستطيل الأخضر، في مبارة أخيرة بين الزمالك والترجي التونسي، والجدير بالذكر أن المشجع الصعيدي أنكر في مقابلة تلفزيونية معرفته بالحزب الوطني الديموقراطي، لكن مع ذلك تم تتويج انطلاقته الماراثونية كرمز للثورة المضادة، والتي باءت بالفشل في إحداث انقلاب مضاد للثورة المصرية.
لكن الأمر يبدو في قمة التراجيديا السياسية في ليبيا، فقد تجاوز عدد القتلى الآلاف في أعنف مواجهة بين السلطة والشعب، وما يحدث نتيجه لثقافة الاستبداد والحرمان التي كان يعيش فيها الشعب الليبي، وقد بدت إشارة رمزية خالدة لما يحدث هناك، عندما شاهدت فيلمًا لمباراة كرة قدم، كان المعلق أثناءها لا يذكر أسماء اللاعبين، لكن يكتفي بذكر أرقامهم فقط، وعلمت أنه كان ينفذ تعليمات العقيد، وفي ذلك قتل للفردية وحرية الإبداع، وكانت نتيجته الكبت والعنف والقتل والدموية، ولذلك كانت التراجيديا السياسية تستحق أن تكون عنواناً لما يجري على أرض ليبيا الشقيقة.
ستكون سوريا للمرشح الأبرز في لائحة الدراما السياسية العربية، لا سيما أنها تعتبر المنتج الأول في الدراما العربية، وما يجري هناك يجعلها في انتظار ما هو أسوأ في ظل حراك الأشباح التي تقتل الناس في ظلام الليل، ثم تختفي في النهار، ودولة سوريا لم تعرف الانفتاح الإعلامي، ولم يكن في تاريخ سوريا الفني كوميديا سياسية إلا ما كان تسمح به الحكومة، فقد كانت تسمح فقط لدريد لحام أن ينتقد الحكومة، أما الآخرون فعليهم الصمت وإلا قتلتهم الأشباح.
ما حدث في الزرقاء في الأردن يوم الجمعة الأخير دليل آخر على وجود اختلاف جذري بين الشعوب العربية، فقد سالت الدماء عندما تظاهر السلفيون الجهاديون يطالبون بالإصلاح، وحدث ما لا يحمد عقباه، وذلك دليل أن عسكرة الشعوب وحرمانهم من التعبير الطبيعي يؤدي إلى التوحش، وذلك من خصائص بعض المجتهدين في دعوات السلفية الجهادية، والتي تفرض نظاماً صارما يجعل من المرء مهيئاً للانفجار في أي لحظة، وذلك لأنهم لم يستطيعوا استيعاب الدرس المصري في فن التعبير السياسي، ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، كانت النتيجة مأساوية.
من خصائص الدعوة السلفية تصحيح منهج العبادة ومحاربة عبادة الأشجار والقبور، لكن من آثار سوء تطبيقاتها قتل الإبداع ومحاربة الفنون وخصوصاً المسرح والسينما ومحاربة حرية التعبير، ولعل ما واجهه أبطال مسلسل طاش ما طاش الكوميدي دليل على ضيق أفقهم تجاه الفن التعبيري، ولولا دعم ومساندة وزارة الإعلام والثقافة للمسلسل لانتهى مبكراً، وقد يستمر المسلسل كنافذة وحيدة للتعبير بأسلوب الكوميديا التعبيرية عن ثقافة المجتمع، لكن ذلك قد لا يكون كافياً في ظل عدم وجود مسارح رسمية معتمدة، هدفها تقديم الفن الرفيع، وإخراج الناس من ضيق الأفق ودعوة رص الصفوف وعسكرنة العقول إلى القدرة الذاتية على التعبير السلمي وإنتاج الفنون بمختلف اتجهاتها.