لا أدري ما هو الأصح، الأمة أم الأمم العربية، الوطن أم الأوطان العربية، الحضارة أم الحضارات العربية. لذلك سوف أستعمل الاسم الجامع المضغوط في كلمة «عرب». هذه التسمية تضم داخل حروفها الثلاثة كل شيء عن الجنس العربي، تحتوي اللغة بكل ألفاظها ولهجاتها وكل الأعراق والأجناس المنصهرة داخل السبيكة العربية وكافة الخيوط والتطاريز والصبغات المتداخلة في النسيج الحضاري العربي، مثلما تضم كل المعتقدات السماوية بأصولها الأولى وفروعها المذهبية التالية منذ أصبحت عبر مئات السنين مجرد تفاصيل متداخلة في سجادة التعبد لرب واحد على امتداد رقعة جغرافية بدأت فضائيات العالم مرة أخرى تسميها أمة العرب.
هؤلاء العرب بكل تفاصيلهم الجزئية دخلوا فجأة وخلافاً لكل التوقعات والاستقراءات التاريخية إلى مرحلة جديدة من التاريخ كأنما قوة خفية دفعتهم من الخلف ليتحركوا من مكانهم الذي توقفوا فيه طويلاً إلى الأمام نحو العالم الواسع والمتنوع.
هل من الممكن أن يفوت على أحد أن هذه الركلة إلى الأمام أو الموجة المحركة المفاجئة لم تبدأ بالتقسيط وعلى فترات متباعدة بتحريك بلد عربي هنا لأن ظرفه التاريخي حان لذلك ثم وبعد فترة انتظار مناسبة بلد عربي آخر حين يحل ظرفه التاريخي بدوره أيضًا؟. ما حصل هو أن هذا الموجة خضت الرقعة الجغرافية العربية بالكامل فقط دون غيرها. كان من الطبيعي أن تكون قوة الطاقة المؤثرة تختلف في فعاليتها من إقليم لآخر؛ لأن استحقاقاتها كانت مختلفة أيضًا باختلاف المكان والوضع الاقتصادي والثقافي والسياسي. بالرغم من ذلك كان التأثير يشبه الموجات الاهتزازية وتوابعها، وكان من تأثيراتها المباشرة إما خطوات إصلاحية فورية أو تعهدات مدعمة بالإيمان المغلظة بالإصلاح أو بالتغيير الكامل هناك حيث يكون الظلم والفساد داءً عضالاً لا تنفع فيه وسائل العلاج التحفظي والخطوات الإصلاحية.
أعتقد أن العرب كجنس بشري، بقدر ما كتب الله لهم الاستنبات في صحاري رملية جافة ليست بذات زروع ولا ضروع، إلا أنه لحكمة إلهية نجهلها عوضهم بمكانية معنوية بين الأجناس لا تتناسب على الإطلاق مع إمكانياتهم المادية المتواضعة. لا أستطيع مهما حاولت أن أتجاهل كون ربع أو ثلث سكان العالم يحملون أسماء محمد وعبدالله وعمر وعلي وحسين وصلاح الدين ومصطفى ورجب ونحوها. هذه كلها أسماء نبتت أصولها في الصحاري العربية القاحلة ثم انتشرت بذورها إلى شتى أصقاع الأرض. كانت نعمة الله الكبرى على أبناء هذه الصحاري القاحلة حين أكرمهم وكلفهم بنشر ديانة الإسلام السماوية فقاموا بذلك خير قيام، بحيث لم يمض نصف قرن حتى صار نصف العالم يسبح لله ويصلي ويسلم على النبي العربي عليه أفضل الصلاة والسلام. وكما هو معهود بكل الحضارات توارت نار العرب تحت الرماد وانتزعت منها القيادة والسيادة أجناسًا أخرى، لكن أسماء هؤلاء أيضًا وأسماء سلاطينهم وقادتهم وكبارهم بقيت كما هي عربية الأصول عبر محمد وسليم وسليمان وعباس من قبل مئات السنين إلى محمود أحمدي ورجب طيب ومهاتير محمد إلى آخره هذا اليوم.
لست شوفينياً يدعي أفضلية عرقية للعرب على غيرهم مثلما يدعي اليهود والعنصريون البيض والفرس لأنفسهم، لكنني أيضًا لست انهزامياً يقبل بيأس وإحباط مقولة أن العرب مجرد عاصفة قبلية عبرت بصدفة التاريخ تثير بداياتها من التعجب والاستغراب أكثر مما يثيره انطفاؤها. لو قال أكبر عاقل وعالم بأسرار التاريخ قبل بضعة شهور فقط أن كلمة «عرب» تضم بداخلها بالفعل بنية تجسيدية مترابطة في الوعي الباطني المؤجل لقيل له أنت حالم لست بعالم لانعدام الدلائل والمؤشرات على ما تقول.
لكن ما بدأ أخيراً كنموذج تاريخي فريد وفي بلاد العرب فقط، فجعل المواطن العربي في أقصى الشرق والجنوب يتعاطف من تطلعات أخيه العربي في أقصى الغرب والشمال يؤكد أن الجسد المنسي لم يكن ميتاً كما ظن الشعوبيون والمثبطون والمحبطون، وها هو الحراك فيه بدأ بتوفيق الله نحو نهضة عربية تاريخية جديدة.