تصلني يومياً عشرات وأحياناً مئات الإرسالات عبر البريد الإلكتروني والفيسبووك وغيرهما من وسائل التواصل الحديثة التي أشرعت بوابات الأفق, وقلَّصت مساحة الوقت المتاح لمتابعة كل ما يصل من طلبات الحوار.
أبدأ بإجابة مراسلات العمل والدعوات المستعجلة والتواصل الشخصي, وقد يبقى شيء من الوقت لمطالعة الباقي؛ الكثير منه يعكس اهتمامات مرسليه، فهذا يرسل الرسالة تلو الأخرى بتسجيلات مواضيع دينية ومأثورات عن الصحابة ودعاءات وأذكار أو حتى تذكير بعذاب القبور. وهذه ترسل كل ما نشرته الصحافة عن حقوق المرأة وحقوق الإنسان وحقوق الطفل, وتفاصيل انتهاكات هذه الحقوق على أرض الواقع من حالات التعنيف إلى حالات العضل إلى مساوئ المسيار. وثالث ينقّب عن كل ما يصلح أن يضاف ولو بشيء من التعسف إلى سلة الشكاوى تحت بند اضطهاد المواطن: مثل مساوئ نظام ساهر, وما لم يتم في قضايا الفساد الإداري, واختيار مواضيع الحوار الوطني, وعطل جمعية حماية المستهلك، وأسئلة أخرى مكررة من نوعية من يعلق الجرس؟ ومتى محاسبة المسؤولين؟ وماذا تم بشأن سيول جدة؟ وبطالة الشباب؟ وتدريب المنتخب؟. ورابعة لا تفوتها نكتة بأي لهجة عربية أو لغة أجنبية إلا وأرسلتها, رغم سماجتها أو إسفافها, لكل الأصحاب.. وأنا ضمنهم. وخامسة ترسل كل يوم أخبار التدهورات السياسية والتصدع في بلدها وقد يكون قريباً من الواقواق وتمبكتو ولا علاقة له بمجريات حياتنا اليومية في أرجاء العالم الأخرى. وسادس يتابع الأخبار السياسية لابساً نظارته الخاصة مضخماً كل حدث ومفسراً له من منظور يبحث عن مؤامرة كونية غربية إمبريالية تُحاك ضدنا نحن العرب أو نحن المسلمين بالتحديد، ثم يوزعها مع تعليقات مستفيضة لكل قائمة معارفه البريديين, وأنا بينهم. ومجموعة متنامية لا يهمها التصنيف ترسل أخبارها الخاصة معنونة بديباجة «تابعوا مقالي في الصحيفة الفلانية والعلانية» أو «تابعوا مقابلتي في المحطة التلفزيونية العلانية» دون حتى أن تذكر اسمك بالتحديد، وليس للمتلقي مثلي خيار في محتوى المقالة أو المقابلة وقد تكون عما لا يهمه أبداً أو يختلف حوله في الرؤية مائة وثمانين درجة.
قليل جداً من هذا الزخم يستوقفني للتفكير, ولذا أفرح حين أجد أي مرسل يحتوي درة ذات قيمة، وأذكّر نفسي بثقافة الغواصين من أسلافنا في الخليج: ليس كل محارة تحمل دانة أو حتى لؤلؤة صغيرة, ولكن عليك أن تفتح كل المحارات لتجد واحدة تفرح قلبك وربما تغير حياتك. هي تلك القلة النادرة التي أبحث عنها بتوق بين كل هذا الانهمار تحتوي شيئاً يستثير التفكير ويضيف جديداً يثري معلوماتي ويصقل قناعاتي.
قبل قليل وبصدفة محضة وصلني مرسل من هذا النوع النادر يحتوي نصائح مفيدة تحت عنوان: «قانون البذور». وسأترجمه باختصار لأشارككم فحوى حكمته:
تأمَّل شجرة التفاح, قد تحمل فروعها خمسمائة تفاحة, بكل واحدة منها عشر بذرات وهي كمية ضخمة. وقد نتساءل لماذا كل هذه الكمية من البذور لكي نزرع عدداً قليلاً من شجر التفاح؟
إن الطبيعة تعلمنا حكمتها: في الحياة أغلب البذور لا تنمو! ولهذا, إن شئت أن تحقق شيئاً ما عليك أن تجرب أكثر من مرة!
وقد يعني هذا أنك ستتقدم لعشرين مقابلة شخصية قبل أن تجد وظيفة, أو قد تقابل أربعين متقدماً قبل أن تجد الفرد المناسب للتوظيف. وقد تحاور خمسين شخصاً لتبيع منزلاً واحداً أو جهازاً كهربياً أو بوليصة تأمين أو فكرة مشروع. وقد تتعرف على مئات الناس لتجد صديقاً حميماً واحداً.
عندما نتفهم «قانون البذور» لا نشعر بالإحباط ونتوقف عن الشعور بالاضطهاد، ونتعلم التعامل مع ما يحدث لنا.
قوانين الطبيعة لا تُؤخذ بصورة شخصية ولكننا نحتاج إلى تفهمها واستيعابها.
باختصار الناجحون يفشلون أكثر ولكنهم أيضاً يغرسون بذوراً أكثر.