الرشوة وتبعاتها تقتل الأنظمة والقوانين، وتجعل الالتفاف عليها، أو تجاوزها، أو تفاديها، ممكناً؛ فيصبح من يملك (الرشوة) يتجاوز النظام، ومن لا يملكها عرضة لتطبيق النظام؛ ولا جدال أن الرقابة والتتبع والمساءلة من أهم وسائل كبح جماح مثل هذه الأمراض الإدارية، والحد من انتشارها، ومحاصرتها في أضيق نطاق؛ غير أن الرقابة والمتابعة والمساءلة وكذلك العقاب - رغم أهميتها - لا تكفي لاجتثاث الرشوة من المجتمعات ما لم نعالج مسبباتها، وبواعث تفشيها. فالجرائم مثل الأمراض والأوبئة؛ متى ما كان الجسد قوياً وقادراً على مقاومة الأمراض استعصى على الأمراض والأوبئة، وكان بإمكانه مقاومتها، وعندما تكون مقاومة الجسد ضعيفة، وبنيته واهنة، يكون انتشار الأمراض أدعى. وما ينطبق على الإنسان ينطبق أيضاً على المجتمعات. والذين يرتشون في المجتمعات صنفان، صنف دافعه الجشع، وحب المال، والتفاني في سبيله؛ ولا يهمه في تحقيق هذه الغاية دين، ولا يكبح جماح طمعه ضمير؛ وتجده على استعداد لأن يُقايض كل قيمه وأمانته ومكانته الاجتماعية، بل و(دينه)، من أجل الحصول على المال الحرام بأية طريقة أو حيلة. هؤلاء لا علاج لهم إلا بالتتبع والرقابة والمحاسبة والضرب بيد من حديد؛ فهو سيرتشي متى ما سنحت الفرصة، وسوف يستغل ما أوكل إليه من أمانة حسب صلاحيات وظيفته، في سبيل إرواء جشعه، وتلبية دواعي طمعه، لأن الأمانة وقيمها لا مكان لها في قواميسه، ومن أجل كبح جماح طمعهم لا حلّ مع هؤلاء إلا بالتتبع والمراقبة والتحقق، ومن ثم العقاب والتشهير ليكونوا عبرة لغيرهم.
أما الصنف الآخر، وهم في الغالب صغار الموظفين ذوي الدخول المتدنية، هؤلاء لن يسلكوا سلوك الفساد إلا مضطرين في بادئ الأمر، والمضطر- كما يقولون - يحل له ما لا يحل لغيره، لذلك فإن الأجور والرواتب المجزية هي (شرط الضرورة) الأول لمحاصرة الرشوة؛ لأن الإنسان تحت إلحاح الحاجة والعوز سوف (يسعى) للحصول على ما يسد حاجته الملحة، ربما بخجل في البداية، ثم وبالتعود سيأخذها بدم بارد وكأنه يأخذ حقاً شرعياً من حقوقه. وعندما تتفشى الرشوة في المجتمعات، وتصبح عادة، ويتحول طلبها إلى ثقافة، ومنحها ضرورة، يصبح اقتلاعها من أصعب المصاعب الإصلاحية في المجتمعات. وأتذكر أنني كنت أتجاذب أطراف الحديث مع أحد مواطني الدول العربية المجاورة التي لا تستطيع أن تُنهي فيها أية معاملة حكومية إلا بالرشوة؛ قال لي بالحرف الواحد وهو يتحدث عن تفشي الرشوة في بلاده: الرشوة ستدفعها ستدفعها؛ الفرق - كما كان يقول - أن هناك واحد (ابن حلال ما بيطلب كتير)، وهناك واحد (ابن حرام بيعصرك عصر)!.. فالفرق بين الرجلين (ابن الحلال وابن الحرام) ليس في المبدأ، وإنما في الكم؛ هنا يصبح اقتلاع الرشوة من مجتمع كهذا في غاية الصعوبة؛ لأن الرشوة تحولت إلى ثقافة اجتماعية، واتفق الراشي وكذلك المرتشي ضمناً على قبولها كأمر واقع.
لذلك فإن التساهل في عدم وضع (حدٍ أدنى للأجور)، بالنسبة للموظفين الحكوميين، أو شبه الحكوميين، وعدم مراعاة ربط هذا الحد الأدنى للأجور بمعدلات (التضخم) والغلاء بين حين وآخر، سيولد حتماً بيئة تنتشر فيها الرشوة، ولن يكبح جماح انتشارها أي نظام أو رقيب؛ والأمثلة في بعض البلدان العربية حولنا تغنيك عن أي دليل.
إلى اللقاء.