لعله من المعروف أن المطلق الوحيد بالحياة الدنيوية: النقيضية المتجسدة في المتقابلات المتقاربة لفظاً، والمتباعدة معنى، وبالطبع هذا يسري على التجمعات البشرية،
وما عداها فكل ما بالحياة مطبوع بالنسبية ترتفع وتنخفض من مجتمع لآخر بحسب مستوى وعي أفراده، وقدراتهم العقلية، والإمكانات الإنتاجية والمادية، ومدى التماثل والاختفلاف بين مكونات هذا المجتمع أو زاك الأثنية والطائفية والثقافية، ونظامه السياسي، وفعلية مؤسساته.
حسب حساب مكونات أيّ مجتمع: دعم لاستقراره وازدهاره، وتكريس للشعور بالمواطنة المانع للولاءات الضيقة التي تثير النزاعات، وذلك بمراعاة خصوصية كل مكون، ومساواتها كلها في الحقوق والواجبات، والرعايات الصحية والاجتماعية، وبالعلم والعمل، والأمن والتنمية، وأن يكون المعيار، الإنتاج والكفاءة حتى لا تتوحش الطبقية، وتسود القيم النفعية، ويضعف الحسّ الإنساني، وليتحول التنوع إلى مصدر أساسي من مصادر التنوير، ويتجذر الشعور الوطني بالفكير والوجدان.
مما تقدم نخلص إلى أن البلاد العربية عانت كثيراً جداً من ضغوط تكاد تختنق بها يطول عدها داخلية وخارجية، وتوالت عليها نكسات، مضافاً إليها العامل الزمني، حيث نتج عنها: إرباك حياة المجتمعات العربية، فتشوشت، والحالة هذه أفكار أفرادها، وقعدت مفاهيمهم، وتعطلت قدراتهم، وتكاد تتوارى إبداعاتهم، وتختفي مهاراتهم، فكان طبيعياً أن يعجزوا عن استثمار مخزونهم الفكري والعلمي، واستلهام المعطي الحديث، وهضم ما يتأثرون به، وفرز ما يفد، والتفاعل الواعي.
وزاد الطين بلة: نشوء أنظمة سياسية استبدت وظلمت، واحتكرت واستهترت، وأشاعت الفساد، وأنظمة أدى انفتاحها اللامنضبط، وتقليدها الخاضع، وتوزع مكوناتها بين أثنية، وطائفية ومذهبية نزع -إلا ما قل- منها الشعور الوطني، فضعفت حكوماتها، وعمتها الفوضى الثقافية مما ترتب عليه سهولة اختراقها إلى أن صارت رهينة لا تملك قراراً مستقلاً، وأنظمة فرفضت، ولم تستطع إلا الانصياع لإدارة الذين فرضوها، فسادت بمذهبيةٍ مقيتة، واعتمدت مشروعاً تقسيمياً، فاعترتها الهشاشة، بحيث تعذبت شعوبها بالانفلات الأمني، وروعتها التعديات وطحنها التهجير والتمييز.
لم يعد خافياً أن بين الدول المتقدمة دولاً تلوث تاريخها بالاستعمار، والاضطهاد والظلم، واغتصاب الحقوق، وزرع بذور الفرقة، وغالت بالتعصب والعنصرية، والتعالي والغطرسة، فاستحقت بجدارة لقب (قوى الاستكبار)، وإن حاولت إخفاء نظرتها -فيما بعد- للآخرين بدونية، فإنها مكشوفة في التصنيفات بالجغرافيا، والجنس والدين واللون، وهي حتى الآن تغلف تدخلاتها وتعدياتها بالديمقراطية، وحقوق الإنسان فتسعى خاصة بالنسبة للعرب إلى تكريس الفرقة بينهم، لتثور الفتن، وتعم التجزئة؛ ومن المؤسف أن تجد من يسهل ما ترمي إليه بوعي واللاوعي كالأنظمة الجائزة التطرف الإيدلوجي بكل أنواعه، بل إن أكثر أدعياء المعارضة بلغ بهم الأمر حد التخلي عن وطنيتهم بالتواطؤ مع هذه القوى التي ليس من صالحها وعي ونهضة غيرها مما يحرمها الانفراد بالتفوق العلمي والحضاري، ومختلف قدراتها.
عدم تبرئة بعض الأنظمة العربية من تهميش شعوبها، والضغط عليها بالتضييق والملاحقة، وتقصيرها بتوفير أكثر احتياجاتها الأساسية، وأحقية الشعوب في أن تطالب وتحتج إذا لم يستجب لها، لا يبدو أن السيل الأمثل في المظاهرات الصاخبة، والحشود الجامحة، والاعتصامات الطويلة سواء التي يدعو إليها شباب (الفيس بوك Face Book)، أوتنظمها فعاليات سياسية ليست بريئة من الأجندات المشبوهة إن عن حسن نية، أو عن قصد تصعيد الاحتجاجات بالشعارات المستفزة، والهتافات الجارحة، والإفراط بالرفض، ورفع سقوف المطالب، والمبالغة بالحماس، وتهويل وتحريض بعض وسائل الإعلام التقليدية، وغير التقليدية، وبينها فضائيات عربية مشهورة، وتحظى بمشاهدة كثيفة نظراً لإمكاناتها، ومهنية العاملين العالية فيها التي حسبناها لا تسقط الموضوعية الملتزمة بالقضايا العادلة في تغطيتها للأحداث، فوجئنا بأن إحداها قد خرجت على كل ما يتصل بالموضوعية والمهنية، ولجأت إلى الفبركة والتضليل، وبفجاجةٍ وغرور توهمت بأنها المحرر رغم أن أجندتها معروفة.
تأجيج المشاعر يهيج الجماهير، ويجعل غضبها يغلي، وعندها يتعدى ما تقوم به: إغلاق الطرق والأسواق، وتعطيل الحركة والمصالح والمدارس، وتذمر الأغلبية من الناس، والنهب والشغب، والقنص من على أسطح المباني، وصعوبة إسعاف المصابين، وعلاج المرضى، والحصول على الغذاء والدواء، يتعدى كل ذلك إلى التخريب والترويع، وتثوير النعرات، والتجويع والتهجير، والتسبب الفتن وتشيع الجرائم، وتتفاقم الانقسامات بين أبناء الوطن الواحد التي بدورها ستأتي بالتقسيم الذي سيزرع الخوف، ويوطن التخلف، وفي هذه الحالة لا يستبعد الغزو والاحتلال، وهذا تغيير محتمل إذا انطبعت المطالبة به بالعنف والتطويل، والحشد والتهييج وحينها يصبح التغيير هروباً من الرمضاء اللاسعة إلى النار الحارقة التي لا تبقى ولا تذر بعد أن تلتهم الرطب واليابس، والزرع والضرع.
* باحث متخصص في التاريخ الثقافي