ما يجعل إنساناً عصيًّا على الانتقاد هو قامته الفكرية ولطف معشره ونزاهة سمعته واتفاق الجميع بما فيهم منتقديه على جدارته بمكانه ومكانته. نقد أو انتقاد إنسان بهذه المواصفات لا يمكن أن يؤثر سلباً في شخصيته ومكانته بل العكس، سوف يزيدهما احتراماً ومهابةً. يقول أبو الطيب:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل
الكامل وجه الله فقط، لكن المضمون في هذا البيت هو أن الانتقاص من أقدار الناس والشخصيات الإعتبارية بالذات حين يأتي من ذوي نقائص ظاهرة، لا يكون انتقاصًا وإنما شهادة كمال وحسن سيرة للمستهدف بالنقد. ثم إن هناك فرقًا بين الطرح الناقد المدعم بالمعلومة والتحليل العميق وبين الطرح الملتبس والمدلس والانتقائي في استقاء المعلومة والمصدر والتوقيت وطريقة التحليل والتساؤل.
من الصعب إنكار وقع الكلمة المغرضة والنقل الانتقائي المجتزأ والتوصيف البذيء على نفس ومزاج من يقع عليه شيء من ذلك، لكن التأثير يكون أقوى وأشد قسوة ووطأةً حين يكون ثمة حقيقة غائبة في سياق التفاصيل ثم يأتي من ينبشها فلا تجد من يرد عليها بحجة عدم كفاية أو كفاءة الناقد. هنا لا يفيد تجاهل الموضوع من قبل الشخص المستهدف بالنقد باعتبار الناقد دخل في غير مجاله وسبح في غير مياهه، ولا حتى كف يده ولسانه بمرسوم أو قانون. مهما حصل، سواءً تم تجاهل الناقد أو تم كف يده ولسانه تبقى المرارة في نفس المستهدف بالنقد مدة أطول إذا كان فيما تم تجاهله أو إسكاته شيء من الصحة أو الحقيقة، لكن ليس ثمة ما يبقى من أذى أو مرارة إذا تم التعاطي مع الناقد ونقده بموضوعية تجعله يفهم ويخجل من نفسه ويكف أذاه.
عملت مدرسًا للطب سنوات عدة ألقيت خلالها مئات المحاضرات في مادة قياسية ذات مدارس متعددة وتحت ظروف تكون أحيانًا غير مواتية لاعتدال المزاج بسبب وفاة مريض أو عدم توفيق في تشخيص أو تكالب المشاكل في مجال العمل. حصل خلال تلك الفترة عشرات المرات على الأقل أن طلب الحديث معي طالب نجيب قوي الشخصية ونبهني إلى شكه في صحة بعض ما قلته في المحاضرة أو في شرح الحالة السريرية لمريض لأنه وجد في مراجعه الطبية ما يدل على عكس ذلك. حدث أيضًا مرات عديدة أن حضر إلي طالب أو أكثر يشتكون من حدة مزاجي وقلة صبري مع زميل لهم لأنني اتهمته بالغباء وطلبت منه الصمت حين سأل بعض الأسئلة السطحية حسب انطباعي وتعبيري كأستاذ وقدوة لهم. هنا، أمام أمثال هذه المواقف لا تنفع المكابرة ولا ينفع أيضًا أن أحرم على الطلبة إعادة النظر فيما أقول وأفعل، لأن ما يترتب على ذلك يدخل في باب الخيانة العلمية والسكوت على معلومة مغلوطة، حتى وإن جاء التصحيح من الطالب لأستاذه، أو يدخل في باب التنفير من المادة العلمية كلها والأجواء التي يتم فيها نشر هذا العلم مما قد يجعل بعض الطلبة يقاطعون المحاضرات، وربما ينصرف بعضهم عن الطب كلية إلى ما يعتقدون أنه يتم التعامل فيه مع الطالب بطريقة إنسانية لائقة.
النقد مثله مثل غيره من الأقوال والأفعال، زبده يذهب جفاءً وما ينفع الناس منه يمكث في الأرض.