يتناول الناس هذه الأيام عدداً من المصطلحات التعبيرية التي باتت بحكم الحالة العربية الراهنة ترد على كل لسان، من هذه المصطلحات انتقيت بعضها لما لها من رابط مشترك يجمع بينها ويساهم إلى حدكبير في صياغة تأثيرها في مفاهيم الناس، وبناء مواقف فكرية وعاطفية تقود تصرفاتهم التي قد لا تخدم التضامن والتعايش الاجتماعي بين مكونات المجتمع، هذه المصطلحات المنتقاة هي التطرف والطائفية والوسطية، والحقيقة والعامل المشترك بينها هوانعدام المعيارية، بحيث لا يمكن قياس المعنى التعبيري، لا من حيث الكم أوالنوع أوالاتجاه، فالناس يختلفون من شخص لآخرحول معاني تلك المصطلحات وإدراكهم لها، ولا يتفق معظم الناس على تعريفات محددة لها، بحيث يمكن الحديث عن أي منها دون استثارة خلاف حاد حول المضامين والنتائج، هذه الضبابية في المعاني هي ما يقود لخلاف حاد وجفاء في الاتفاق حول مضامين فكرية محددة تقود لبناء وحدة فكرية اجتماعية مهيمنة.
الإنسان المتطرف لا يرى نفسه متطرفاً، بل يرى التطرف لدى من يخالفه، فهوموقن بثباته على المنهج الصحيح وينظر لحال الآخرين من موقع بؤري، فهوالمحور وصاحب الحق والمعتل من يختلف معه، وقد يضع درجات لمدى اعتلال منهج الآخر بقدر اختلافه معه اوأن يحصر موقفه من الآخر في قيمة واحدة هي مقبول أومرفوض، ويجد الملاحظ شيوع لهذه الحالة في مجتمعنا العربي فمعظم القيادات الفكرية متمترسة بموقف فكري واحد دون رغبة حقيقية في فهم الآخر ناهيك عن الاتفاق معه، وكعامل مساعد في ضبابية معنى التطرف تساهم الطائفية هي الأخرى في تشرذم البناء الاجتماعي وتبدو إتلافات هشة حول مشتركات غير ثابتة ومتحركة بصورة ديناميكية، فالمذهبية الدينية داخل الطوائف الرئيسة تتكون وتتحور بصورة مستمرة حول مفاهيم جديدة أوقديمة تكتسب تفاسيرجديدة يقودها مفكرون ومجتهدون يغيرون اتجاهاتهم ومفاهيمهم بصورة مستمرة، وعندما يتقاطع الانتماء العرقي والقبلي مع الولاء المذهبي يكون ذلك نسيجاً خلافياً حول كل شيء تقريباً، ونازعاً للاستقطاب حول كل شيء تقريباً، وعندما لا يستسيغ أحدهم ذلك الخلاف والاستقطاب، يبحث عن حالة مريحة من التجاذب يدعيها وسطية، ومع أن الوسطية تبدو مفهومة الدلالة إلا أنها تفقد المعنى عندما تكون وسطية بين مجهولين فتصبح سديما من الخلاف الواسع، وعندما يريد المدعي بالوسطية تحديد وسطيته، لا يستطيع الخلاص من معضلة فكرية معيقة، فعلاوة على ضبابية وضوح طرفي التوسط، هناك تحد يجبره على تحديد موقفه من طرفي توسطه، فهما إما مرفوضان عقدياً أي أنهما خارج دائرة الإسلام أو أنهما طرفان مقبولان بمعنى أنهما ضمن دائرة الإسلامي، وفي كلتا الحالتين هومطالب بتحديد الفاصل بين المتوسط والطرف، بحيث يكون نطاق الوسطية أوسع من نطاق الطرفين أوأضيق، وبقدر ذلك يزيد وينقص المقبول لدى الوسطي، فقد يتسع نطاق الوسطية ليحصر التطرف في مجال ضيق جداً فلا يبقى في الأطراف إلا متسع لفكرة واحدة، وقد يضيق جداً فلا يتسع الوسط إلا لفكرة واحدة، ولا شيء يماثل اضمحلال المعنى، كما هوفي معنى الحقيقة، فعندما يحاول الإنسان ضبط ذلك المعنى بمعايير محددة يواجه مراوغة ذهنية عاطفية تدفعه للاحجام عن ذلك والاطمئنان لما تكدس لديه من تراث شكل حقيقة مقبولة له، فلا حقيقة عقلية غير حقيقة الفيزياء والرياضيات، وما عداهما فهوغير قابل للانضباط، وما يدعيه معظم الناس هوكم هائل من الغيبيات تمثل مسلمات غير قابلة للنقاش عندهم، وما يبدولآخرين ضربا من الخرافات والأساطير هومعتقدات راسخة لغيرهم، لذا من الصعب قبول أن الحقيقة ماثلة كالشمس لكل الناس بحيث لا ينكرها إلا جاحد مستكبر، فحقيقة أحدهم هي وهم آخر، ولا سبيل لكشف غيب ذلك بمعطيات ومكرسات فكرية وعقلية.
هذه المعاني على الرغم من اضطراب مفاهيمها، واختلاف الناس في استيعاب مدلولاتها، فهي من أكثر المعاني تشكيلاً لتوجهات الناس وقيادتهم نحوسلوك بعضهم تجاه بعض، فهي من يفرقهم ويجمعهم، وميوعة هذه المعاني تحركها بديناميكية تستفز فكر بعضهم لينصرف في جهد يحاول لملمة معنى محدد يهتدي به، فيذهب فيه جهده لتضييق وحصر المعنى المتسع، بحيث يصبح وحيداً في معياريته ويرى نفسه على الحق وغيره على الباطل، فينصرف يدعوغيره لمفهومه الضيق وما زال يفعل ذلك لاستيعاب قناعات الآخرين حتى يتسع المعنى رويداً رويداً ويعود الحال كما بدأ، لذا فلا سبيل لإيجاد مفاهيم مشتركة لمعان مائعة، فالناس مهما اتفقوا اليوم حول المعاني سيختلفون غداً حول المفهوم، وهذه سنة الله في خلقه، ولكن الممكن والمقدور عليه والمسبب للتعايش والنموالاجتماعي والتطور هوالتسامح مع مفاهيم الآخرين، دون الإصرار على تغييرها أومحاربتها.