أعتقد أن كلنا بلا استثناء قد جلس على كرسي الطبيب أو استلقى على طاولة الجراح ليتلقى علاجاً أو جراحةً ما، سواء كان عملية تحت التخدير العام أو ضرساً يُخلَع. أيضاً أعتقد أن الكثير منا قد أبدى قلقاً أو تردداً من الذهاب للجراح أو طبيب الأسنان، وهذا طبيعي وشائع جداً وله عدة أسباب، منها الخوف من المجهول، منها الخوف من الألم أو المضاعفات، وغير ذلك. لكن القلق يتجاوز حد الطبيعي وينتقل إلى ميدان اللامنطقية والتهويل إذا صار رعباً وهلعاً يمنع الشخص من تلقي العلاج، وهذه حقيقية، فهناك حالة لم أكن أعرف عنها من قبل اسمها الخوف المرضي من المستشفيات. بعض يرفض الذهاب للمستشفى مهما كان، وممن كان لديهم هذا الرعب الرئيس الأمريكي الراحل نيكسون، فلما ظهر عنده التهاب في الوريد عام 1974م رفض الذهاب للمستشفى، وقال هلِعاً «لو ذهبت لما خرجتُ حياً!»، ولم يرضخ إلا بعد أسبوعين، ولو لم يوافق لكان هناك احتمال ظهور خثرة مكان الالتهاب، وهو ما قد يسبب الوفاة، وقد حصلت حالات وفاة عند أناس رفضوا الذهاب للمستشفى حتى استفحلت فيهم الأمراض وفات أوان علاجها.
لكن حتى أسوأ حالات الخوف من الطبيب أو المستشفى، هؤلاء أضمن أن حالتهم ستتحسن لو عرفوا حال الناس سابقاً قبل اكتشاف التخدير. شخصياً أعتقد أن أعظم ما صنعه العلم الحديث هو التقدم في الطب، فلا الوصول للقمر ولا الإنترنت ولا السيارات والطائرات تجاري هذه النعمة العظيمة من الله، وكلما تخيلتُ حال الناس في الأزمان السابقة إذا مرضوا فإنني أفزع. أتذكر برنامجاً رأيته ذات مرة عن أحد فراعنة مصر والذي ظهر في أحد أضراسه خُراج أخذ في نخر أحشاء الضرس، وعاش الملك المسكين في ألم شديد لا أتخيله حتى قتله هذا الخراج. أيضاً قرأتُ عن جمجمة اكتشفت في أمريكا اللاتينية وجد فيها الباحثون آثار حفر في الفك، وبعد فترة من الدراسة وتقصي الحقائق وجدوا أن صاحب الجمجمة أصيب بمشكلة في ضرسه، ومن شدة الألم لم يترك شيئاً إلا وفعله، حتى ذهب إلى شخص استخدم قوساً ونبلاً ليحفر ويخترق ضرس الرجل! هؤلاء وغيرهم كانوا مستعدين لدفع كل ما لديهم مقابل زيارة واحدة لطبيب الأسنان اليوم، وكنت أسمع وأنا صغير بالمقولة الشهيرة «لا وجع إلا وجع الضرس» وأظنها مبالغة، فلما أصبت به عرفت أنها مقولة سليمة إلى درجة كبيرة، وقد سألت طبيب أسنان ذات مرة عن سبب كون ألم الضرس بالغاً وشديداً لهذه الدرجة مقارنة بالكثير من الآلام الأخرى، وأفادني أنه بسبب صلابة الضرس مقارنة بالأنسجة. لتقريب الفكرة، ماذا يحدث إذا أصابتك ضربة قوية أو ألم شديد في إصبعك؟ الحاصل أن الجهاز المناعي يجعل الإصبع يتورم، فيخف الألم قليلاً ويتوزع. لكن لما يصاب الضرس بمشكلة فإنه لا أنسجة لديه لينفخها ويورمها، فيتركز الألم على منطقة صغيرة معينة ترزح تحت ضغطٍ وألمٍ شديد. أقرأ هذه القصص وأتفهم أحد دوافع الرسول- عليه الصلاة والسلام- لما أوصى بالسواك وحث عليه حتى كاد أن يوجبه.
ولا تقتصر المسألة على الأسنان فقط بل إلى كل المجالات الطبية. تخيل أنك عشت قبل 500 سنة مثلاً وأصبتَ - حفظكم الله - بالتهاب الزائدة الدودية، ما أنت صانع؟ هنا أيضاً لا أشك أن كل من أصيب بها تلك الأيام كان مستعداً لدفع ماله كله من أجل زيارة للجراح، وإذا رأى إبرة التخدير فسيخر ساجداً شكراً لله. كان الأطباء سابقاً يجرون عملياتٍ جراحية مثل بتر أحد الأطراف كعلاج للغرغرينا مثلاً، وحينها كان المصاب مجبراً أن يخضع للعملية بدون تخدير، اللهم إلا محاولات لتخفيف الألم باستخدام الكحول (كشراب) أو نباتات ذات تأثير مخدر مثل الأفيون، وتلك النباتات كانت تشكل معضلة كما عبر عنها الطبيب الإيطالي جابريل فالوبيو في القرن السادس عشر، فيقول: «إذا كانت مواد التخدير هذه ضعيفة فهي عديمة الفائدة، وإذا كانت قوية فهي قاتلة».
لكن قصة الروسي «لينيد روجوزوف» هي تذكير أنه حتى في هذا العصر فإنه لا فائدة من الطب الحديث إذا لم يحصل الشخص على علاج في الوقت المناسب، وقصة لينيد نادرة ومرعبة وشيقة في نفس الوقت، ولنا جولة معها إن شاء الله في موضوعٍ قادم، أما الآن فلنحمد الله على هذه النعمة العظيمة... نعمة إبرة التخدير.