لاشك أن للمكانة الدينية، والتاريخية، والسياسية للمملكة دور بارز ومهم في بناء الدولة السعودية الحديثة القائمة على منهاج واضح في السياسة والحكم والدعوة، فالمملكة قامت منذ إنشائها وفي جميع عهودها على دعائم دينية، وفكرية، وتاريخية مبنية على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- مما جعلها تتبوأ مكانة مرموقة في تاريخنا المعاصر من الناحية التاريخية، والفكرية، كما أن النهج الوسطي الذي سلكته المملكة وقامت بتطبيقه جعلها مصدر إلهام لكثير من الحركات الإصلاحية والتجديدية في مختلف البلدان والأقطار الإسلامية، حيث تمكنت من نشر العقيدة الصافية والنقية من شوائب الشركيات والبدع والخرافات المنتشرة في الكثير من بقاع العالم الإسلامي، وقد استمرت المملكة على هذا النهج في جميع مراحل نشأتها، واستطاعت أن تقف صامدة قوية أمام هجوم الأعداء والحاقدين، كما تمكنت بفضل الله ثم بفضل ما قامت عليه من أسس قوية ونهج سليم مستمد من تعاليم كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الوقوف باقتدار أمام هذه التيارات الهوجاء.
ولكون الشجر المثمر دائماً مستهدفاً، فلم تسلم المملكة في الماضي، كما لم تسلم في الحاضر من كيد الكائدين، وحسد الحاسدين، وحقد الحاقدين، لما حققته المملكة من نجاحات بارزة على عدة أصعدة سواء السياسية، أو الاقتصادية، أو التعليمية، أو غيرها من المجالات، كل ذلك أدى إلى النقمة عليها سواء بوصفها ببعض الصفات السياسية الممقوتة مثل الرجعية، أو ببعض الصفات الدينية الحاقدة مثل (الوهابية) لتنفير المسلمين من هذه الدولة ومبادئها الصحيحة.
ولما تشهده الساحة العربية حالياً من انتفاضات ومظاهرات نتجت عن وجود خلل في إعطاء أبناء بعض البلدان المجاورة حقوقهم واحترام كيانهم أدى بها إلى ما نشهده حالياً من قسوة ظالمة وعنف كبير على الشعوب خلط الأوراق، وضاعف من المشكلة وأصبحت لغة القتل هي السائدة بين أفرادها مما أتاح فرصة للأجانب من التدخل في شؤونها ونهب خيراتها.
أما نحن في المملكة فلسنا بعيدين عن التأثر بهذه الحركات، ولن نتمكن أن نكون في معزل عما يجري حولنا من مشكلات، ولقد حاول الحاقدون أن يزجوا بأبناء هذا البلد الطاهر في أتون الفوضى والتخريب، ولكن بفضل الله ثم بفضل السياسة الحكيمة التي تنتهجها المملكة في إنصاف الناس وإعطائهم حقوقهم وتمكين كل مواطن من المطالبة بحقه سواء كان لدى صغير أو كبير أو غني أو فقير، فأبواب المحاكم مفتوحة، ومكاتب المسئولين مشرعة لكل من يناله مظلمة أو يؤخذ له حقه.
إضافة إلى ذلك فإن الدعائم التي ترتكز عليها المملكة وتشكل حصناً منيعاً من اختراق شعبها وخاصة شبابها هو عدم قيامها على القبلية أو المناطقية أو العرقية فالجميع سواسية أمام الكتاب والسنة، وقد طبق هذا المبدأ الملك المؤسس عبدالعزيز ـ طيب الله ثراه ـ حيث قال مخاطباً المواطنين في إحدى المناسبات: أعتبر كبيركم بمنزلة الوالد، وأوسطكم أخاً، وصغيركم ابناً فكونوا يداً واحدة وألفوا بين قلوبكم لتساعدوني على القيام بالمهمة الملقاة على عاتقنا، وقد سار أبناؤه البررة من بعده يواصلون مسيرة الخير والعطاء محافظين على خدمة الحرمين الشريفين، والحرص على شعب المملكة وتقديم كل ما يخدمهم ويعينهم ويسهم في رقيهم.
هذا النهج القويم أوجد تلاحماً قوياً بين القيادة والشعب وحصناً منيعاً تقف عنده كل دعوات الشر والفرقة، وقد أكد على هذا المبدأ صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز في محاضرته، وليس بغريب على سموه فهو صاحب الخبرة الطويلة والفكر الثاقب، كما أن ثقافته التاريخية تمكنه من إيضاح الطريق الصحيح لشباب هذه الأمة، لذلك رأينا سموه قد اعتلى منبر العلم والمعرفة في الجامعة الإسلامية ليتحدث عن (الأسس التاريخية والفكرية للمملكة)، ولهذا الاختيار سواء للموضوع أو المكان أبعاده الثقافية والدينية والتاريخية.
فاختيار المكان لأفضليته الدينية والمكانية فهو مهجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيها المسجد النبوي حيث شع الإيمان والنور وأنقذ البشرية من الفوضى والظلام. واختيار مكان المحاضرة الجامعة الإسلامية يأتي مواصلة لدور الجامعة التاريخي لخدمة الإسلام والمسلمين ونشر الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية المعتدلة في المجتمع، وإتاحة الفرصة لإبراز الوجه الحقيقي للحضارة الإسلامية، ومختلف فنون المعرفة من خلال برامجها الثقافية المميزة التي يشارك فيها كبار المفكرين من داخل المملكة وخارجها، وما تبني الجامعة لهذه المحاضرة إلاّ دليل قاطع على تبوئها لأداء رسالتها السامية في نشر العلم والمعرفة اعتماداً على منهج وسطي يمثل سماحة ديننا الإسلامي الحنيف، وفي هذا الخصوص، لا بد من الإشادة بمعالي مدير الجامعة الأستاذ الدكتور محمد العقلا والذي تمكن من تحقيق إنجازات نوعية للجامعة خلال فترة وجيزة وذلك في كافة المناشط الأكاديمية والبحثية والثقافية.
أما بالنسبة لاختيار الموضوع فهو بلا شك موضوع مهم جداً أتى بحثه وإلقاء الضوء عليه في وقته المناسب، وذلك لما تشهده الساحة من حولنا من اضطرابات وفوضى تتطلب من ذوي الفكر والثقافة المساهمة في تحصين الشباب وتعريفهم بماضيهم وكيف كان أجدادهم عاشوا في خوف وهلع وعدم اطمئنان قبل قيام هذه الدولة الراشدة.. ولا شك أن سمو الأمير سلمان خير من يساهم في هذا المجال لفكره الثاقب وثقافته التاريخية الواسعة ومعاصرته لمعظم الأحداث التي مرت بها المملكة.
كما أن سموه يعتبر صديق العلماء ورفيق الباحثين وأحد المفكرين، ولذلك فإن مساهمته في هذه المحاضرة في الجامعة الإسلامية تأتي امتداداً لجهود سموه الكريم في دعم المؤسسات التعليمية، وتواصلاً مع منابر العلم وصروح الثقافة، وما ذلك إلا نابع من اهتماماته بكل ذي صلة بالمجالات التاريخية والاجتماعية والثقافية، فضلاً عن دعمه المستمر للباحثين والمؤرخين وتشجيعه للجامعات في إنشاء العديد من كراسي البحث التي تخدم التاريخ الإسلامي بشكل عام وتاريخ المملكة بشكل خاص، ومن ذلك كرسي سموه لدراسة تاريخ الجزيرة العربية بجامعة الملك سعود، وكرسي الملك عبدالعزيز لدراسة تاريخ المملكة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وكرسي سموه لدراسة تاريخ مكة المكرمة بجامعة أم القرى،وكذلك كرسي سموه لدراسات تاريخ المدينة المنورة.
كل هذه الإسهامات علامات بارزة توضح بجلاء حرص سمو الأمير سلمان على الدراسات التاريخية وتشجيعها لما لها من فوائد جمة في توثيق تاريخ الشعوب والبلدان.
Dralsaleh@yahoo.com