كل إنسان يعيش على هذه البسيطة يجب عليه أن يرسم لنفسه منهجاً يسير عليه في حياته كلها ليكون السبيل الموصل بإذن الله تعالى إلى الجنة، وبهذا المنهج تثبت خطاه ولا تزيغ ويقوى هدفه ولا يتشتت أو يضيع. وهذا المنهج بلا شك هو المنهج الرباني قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فلو تبصرنا لوجدنا أن تحديد الغايات والأهداف لأي عمل كان، يعد ضرورة من الضرورات الحياتية ولا يكون ذلك التبصر إلا بوضع الضوابط والآليات والتي تسمى- الاستراتيجيات والخطط التفصيلية والتوضيحية المساعدة - لتتحقق تلك الغايات وتلك الأهداف المرسومة فتتحدد السبل وتتحدد الطرق الصحيحة التي ينبغي أن يسير عليها كل فرد مسلم يعلم أن الدنيا ليست على الدوام وإنما هي طريق إلى الآخرة ومن ضمن الأهداف المهمة في حياة المسلم أن يجعل لنفسه وقتاً للمحاسبة فيعزز الجوانب الخيرة فيها ويعالج الجوانب السلبية التي رآها ويجعل هذا الهدف - أي الحاسبة الذاتية- نبراساً في حياته كلها ولأهل بيته ومن تحت ولايته ومن تأمل في أحوال الناس الذين ساروا على عكس الاتجاه الصحيح يعني على خلاف ما سار عليه رسولنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وهم الفرقة الناجية الذين استقاموا على دين الله وتوحيده، والإخلاص له، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، والإيمان بأسمائه وصفاته على الوجه اللائق به سبحانه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل، هؤلاء هم أهل السنة والجماعة، يقول صلى الله عليه وسلم: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في الناس إلا واحدة) قيل: ما هي يا رسول الله!؟ قال: (الجماعة) وفي لفظ قال: (ما أنا عليه وأصحابي أقول: فمن هؤلاء الذين خالفوا المنهج وساروا على عكس الاتجاه الصحيح عدة فئات من الناس: منهم من تجرأ على حرمات الله عن طريق القول والتعميم أو الإشارة أو الكتابة مثلا كمن يسخر من دين الله وشرائعه تحت مظلة التطور والتقدم أو من يفتي بغير علم فيضل ويضل وهم كثر وللأسف ومنهم من تجرأ على حرمات الله عن طريق تصنيف الناس ووصفهم بصفات ما أنزل الله بها من سلطان ومنهم من تجرأ على حرمات الله عن طريق إشاعة الفاحشة في المؤمنين والفرح بذلك والعياذ بالله قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فمثل هؤلاء ومن على شاكلتهم نجد أنهم يتصفون بالانهزامية النفسية والانحطاط الفكري وحب الذات وقلة الوعي وقلة الإدراك وضحالة العلم حتى ولو أشاد بعلمهم وأعمالهم البسطاء من الناس!! وحتى لو تقلدوا المناصب العليا التي تدل على نجاحاتهم عند عامة الناس فهم في الحقيقة خائفون وجلون وأن اتصفوا بالقوة والمنعة وخاوون مجوفون من الداخل وإن كبرت أجسامهم وأوصافهم قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وكل هذا لم يكن إلا بسبب أعمالهم المشينة وبثرثرتهم المقيتة ويحملهم لكل معيبة وتقليدهم للكفار بكل طريقة ومصيبة قال تعالى عن الكفار: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ فقوله جل وعلى: ومثل الذين كفروا: (أي فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نعق بها راعيها، أي: دعاها إلى ما يرشده، لا تفقه ما يقول ولا تفهمه، بل إنما تسمع صوته فقط هكذا روي عن ابن عباس، وأبي العالية ومجاهد وغيرهم. وهنا من يتتبع طرق الغواية والضلال ويسمع النصح والإرشاد ولا ينتصح فهو كالدواب السارحة الضائعة والعياذ بالله.
إن الهزيمة النفسية تعد عند العالم أجمع سقوطاً حضارياً فظيعاً لا يضاهيه أي نوع من الهزائم لأنه في الحقيقة لا يكون إلا بعد أن يستبعد العقل والقلب والفكر مما يؤثر على تكوينه الإنساني فينتج عن ذلك انسلاخ من الدين والقيم وإقصاء للأخلاق والشيم وانتهاك للحرمات والذمم وهو في الحقيقة -أي من اتصف بمثل هذا الوصف- لا يضر إلا نفسه علم ذلك أم جهل، حتى ولو أظهر الإصلاح - قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ فلو سألنا عن الغاية التي يرجوها من سخر نفسه لإضلال الناس وإفسادهم ونشر الفواحش بينهم لوجدنا أن غايته أن لا يكون في العذاب والخزي وحده قال تعالى: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء الآية.. فهل مللنا النجاح والخيرات والأمن في حياتنا من قبل حتى يترك هؤلاء يعبثون كما يشاؤون بلا احترام ولا تقدير؟! وكأن المجتمع محدود العقل، وعلى خط سواء يتحد فيه كبيرهم وصغيرهم عالمهم وجاهلهم! فلا وجود للمصلحين ولا للمنظرين؟ ولا وجود للجادين ولا للمفكرين؟ وكأنهم في نظر هؤلاء المفسدين علب فارغة يجب ملؤها بأي شيء كان ومتى كان وعلى أي طريقة كانت!!
إن الناصح الأمين ليدرك أن الذي يسير بالاتجاه المعاكس على قسمين لا ثالث لهم: إما جاهل يحتاج إلى نصح وإرشاد فواجبه علينا أن ننصح له بالحكمة التي أرشدنا إليها القرآن الكريم قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ فالفظاظة والغلظة والخشونة تنفر الشخص ولا تميل قلبه ولا يتآلف؟ بل ربما يزداد عناداً واستكبارا؟ لأن الحكمة والموعظة الحسن هي مفتاح القلوب، كما قال تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه من أعطى حظه من الرفق فقد أعطى من خير الدنيا والآخرة والحكمة العالمية تقول ما يؤخذ باللين لا يؤخذ بالقوة.
والقسم الآخر مكابر ضال، أشبه بمن حمل التوارة فتركها وراءه قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فهذا لا يترك وشأنه بل يرفع أمره إلى ولاتنا حفظهم الله وسدد على الدرب خطابهم ليردع ويؤدب فينزجر ويرجع وعلى المصلحين وحماة الدين هنا أن يعرّوا فكره ويكتشفوا ستره ليعرف منهجه فيبتعد عنه ويحذر من غوائله وإن يكون النقد منصب أكثر على الفعل ذاته.
ولنكن يدا واحدة على الخير يد وحدة على نبذ الشر منتبهين حذرين لمكايد الأعداء مصلحين آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر بأفعالنا وأخلاقنا وواجباتنا وبحياتنا كلها وبكل يسر وسهولة وبكل رفق ومحبة حتى نحيا الحياة الطيبة وتبقى الخيرات والمقدرات لنا ولأجيالنا سليمة من أيدي العابثين.