ينتاب إسرائيل قلق غير قليل نتيجة تطورات الأوضاع العربية عامة والمصرية خاصة. ومع أن قياديين صهاينة حاولوا طمأنة أنفسهم إلى المجريات الجديدة للأمور، فإن الخداع الذاتي الذي يمارسونه على أنفسهم لا يقوى على غش أحد غير أصحابه..
.. بينما يدلي آخرون من هؤلاء بتصريحات تفيض قلقا وخوفا على المصير، الذي تتراكم دلالات كثيرة على أنه لن يكون كما تريده تل أبيب، وتوجد قرائن كثيرة تبرر فزعهم من لحظة تقترب ستكون مصر فيها على رأس العرب المناوئين للتوسع الصهيوني وسياساته، الداعمين لفلسطين وحقوقها، الذاهبين في اتجاه مغاير تماما لذاك الذي سارت حكومتها السابقة عليه بعد اتفاقية كامب ديفيد، وأخذ مصر بعيدا عن وطنها العربي، بل وأفقدها دورها ووزنها فيه، وحرمه من نشاطها وطاقاتها الكبيرة، التي لا غنى لأي بلد عربي عنها، وسنفيد جميعا من عودتها إلينا، في أقرب وقت بإذن الله.
والحق، إن لقلق إسرائيل ما يبرره، فقد أجرت جهة صحافية أميركية سبرا للرأي العام المصري حول طبيعة علاقاته معه الكيان الصهيوني، فقال 62 % منهم إنهم ضد استمرار معاهدة السلام، وأيد الفقراء بخاصة قطع علاقات بلدهم وإلغاء المعاهدة معه، فكان نصيبهم قرابة 65 % من النسبة السابقة، بينما لم يقبل استمرار المعاهدة غير أقل من 30% من الذين طرح هذا السؤال عليهم، وفي هذا التوزع للنسب ما فيه من دلالات وخطورة، فالمصري العادي لم يؤقلم نفسه بعد مع معاهدة سلام عقدت قبل نيف وثلاثين عاما، وها هو يستغل أول فرصة لرفضها والتخلي عنها، لإحساسه واقتناعه أن عودته إلى أمته العربية لا تستقيم مع بقاء علاقات رسمية بين دولته الجديدة ودولة معادية تحتل أرض فلسطين وتتوسع فيها, كما تطرد شعبها العربي أو تمارس القتل المنظم عليه، علما بأن موقف المصريين هذا يأتي في وقت مبكر نسبيا بعد التغيير هناك، وأن القضية في بداياتها والآتي أعظم بالنسبة إلى الكيان المعادي للعرب.
ولعل التحذيرات التي أصدرها وزير الخارجية المصري السيد نبيل العربي إلى إسرائيل بخصوص ما كانت تفكر فيه من هجوم على غزة هي أولى ثمار توجه جديد، سيضع مصر في موقع من يردع العدو ويمنعه من مهاجمة أي بلد عربي، لأن ثمن هجومه سيكون عمليا وكبيرا هذه المرة وليس كلاميا وعابرا كما في المرات السابقة الكثيرة.
وقد سرب الإسرائيليون معلومات تفيد أن جيشهم وضع بدائل عسكرية في حال عادت مصر عن سياساتها الراهنة، واستعادت من جديد موقعها كبلد يشكل جزءا من طوق عربي مواجه انهار بخروجها منه، وأصابه الشلل في الجبهات الأخرى.
والآن، وإذا ما تم حقا تغيير دور مصر وتفعيله، أقله في فلسطين، فإن إسرائيل ستكون دون أي شك في موقع لا تحسد عليه، يعرف عسكريوها أكثر من أية جهة أخرى معنى تشكله في شرط عربي جديد، ضخ الكثير من الدماء في شرايين وأوردة الجسد العربي، الذي بدا لفترة طويلة وكأنه يحتضر، فأحياه وأنعشه.
وما سيزيد الطين بلة ما يرجح أن تشهده علاقات مصر مع أميركا من تغير واسع، خصوصا وأنها لن تحتاج إلى العون الأميركي حاجة نظام مبارك إليه، إذ سيكفي قطع دابر الفساد والسرقات لتعويض ما كان يأتيها سنويا من معونة بالدولارات، في حين سيؤدي الاحتضان المتبادل بينها وبين أمتها العربية إلى مدها بمساعدة أكبر وأكثر ديمومة، لا بد أن تتحول على مصدر دائم للعون الذي يجب أن تحصل عليه، ليكون لها فيه بديلا مقبولا يتفق وكرامتها الوطنية والقومية.
تقلق إسرائيل كثيرا من هذا التطور بمجمله، الذي اكرر أنه في بداياته، وان آفاقه واعدة جدا ومن شأنها تغيير مواقف عربية وإقليمية كثيرة، ودفعها إلى حال يختلف عن حالها الراهن، في طور نهوض جديد يتم هذه المرة في ظروف وشروط تبدو ملائمة، بينما يتردى عموما وضع إسرائيل من الناحية الإستراتيجية، ويصاب بالإرباك في المستوى التكتيكي، بما يذكر الكيان بطابعه العارض والوقتي المحتمل، وهو الذي كان يظن أنه نجح في فرض السلام على بعض العرب من جهة، والعدوان على بعضهم الآخر من جهة أخرى، وأن الأمر استتب له إلى زمن بلا نهاية، لأن هؤلاء استسلموا له أو خارت قواهم في مواجهته.
والقلق الإسرائيلي مفهوم، ليس فقط بسبب التحدي الذي يواجهها به عالم عربي يتغير إلى الأفضل، بل كذلك لأن قدراتها ستكون هزيلة في مواجهة قدرات العرب، إذا ما نظمت واستخدمت بصورة صحيحة وفاعلة، بينما ستتراجع أهمية علاقاتها الدولية في مواجهة أمة قال عنها وزير خارجية واشنطن الأسبق هنري كيسنجر ذات يوم: إنها أمة تمتلك تجربة واسعة في بناء الحضارات والإمبراطوريات، ويصعب على إسرائيل قهرها بالسلاح وحده، خصوصا إن هي استعادت قرارها، ووظفت طاقاتها من أجل إعادة بناء نفسها!
من حق العرب، بالمقابل، وضع آمالهم في زمن عربي جديد، والرهان على حاضرنا ومستقبلنا، والنظر بثقة إلى قدراتهم وخياراتهم، التي ستكون مستقلة حكما، ومكرسة لخدمة مصالحهم المشتركة كعرب، وستدخلهم إلى العالم كأنداد لكباره، في حين ستقلق إسرائيل إلى حد الاعتراف بالخوف، كما أقر به عسكريون كبار في جيشها بصراحة، حين طرح عليهم السؤال حول نظرتهم الحقيقية إلى تطورات الوطن العربي عامة ومصر خاصة، فقالوا إنهم يخافون المستقبل، ويرون صورته سوداء قاتمة، ويخشون عواقب ما سيجري فيه!
kilo.michel@gmail.com